ღ منتدى ثمار الحب ღ
السلام عليكم

انا وكل اعضاء المنتدى نرحب بكل زائر يتفضل ويقوم بزيارة المنتدى نرحب بكم باجمل عبارات الترحيب وباعذب الكلمات وباحلى الالحان بارق التحيات بالحب والسعادة والأمن والأمان ولكم كل المحبة والمودة والسعادة والسرور

ღ منتدى ثمار الحب ღ
السلام عليكم

انا وكل اعضاء المنتدى نرحب بكل زائر يتفضل ويقوم بزيارة المنتدى نرحب بكم باجمل عبارات الترحيب وباعذب الكلمات وباحلى الالحان بارق التحيات بالحب والسعادة والأمن والأمان ولكم كل المحبة والمودة والسعادة والسرور

ღ منتدى ثمار الحب ღ
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ღ منتدى ثمار الحب ღ

 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولتحميل الصور
مواضيع مماثلة
    المواضيع الأخيرة
    » KYLE XY * ALL SEASON
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالخميس يونيو 21, 2012 5:48 pm من طرف eccentreck

    » - باسم حيرتي واشتياقي إليك ,
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالخميس أبريل 19, 2012 8:35 am من طرف parting tear

    » اغانى ساموزين
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالخميس أبريل 19, 2012 3:36 am من طرف parting tear

    » تحميل اغانى سوما
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالخميس أبريل 19, 2012 3:32 am من طرف parting tear

    » ما اصعب
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالخميس أبريل 19, 2012 3:22 am من طرف parting tear

    » تغيرتى
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالخميس أبريل 19, 2012 3:19 am من طرف parting tear

    » انا تائه
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالخميس أبريل 19, 2012 3:13 am من طرف parting tear

    » الحب الصامت
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالخميس أبريل 19, 2012 3:11 am من طرف parting tear

    » رثاء حب
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالثلاثاء أبريل 10, 2012 12:18 am من طرف mostafa salama

    تصويت
    مارايك فى حب النت
     ناجح
     فاشل
    استعرض النتائج
    أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
    parting tear
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    بنت النيل
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    no0ody
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    amel_27
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    mostafa salama
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    takaa
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    white rose
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    نجمه النسيم
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    انا...
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    limooo22
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    أفضل 10 فاتحي مواضيع
    parting tear
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    بنت النيل
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    نجمه النسيم
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    انا...
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    amel_27
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    cuote evan
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    الطير
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    محمد داود
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    salwa
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    no0ody
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_rcapمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_voting_barمذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. I_vote_lcap 
    المتواجدون الآن ؟
    ككل هناك 1 عُضو حالياً في هذا المنتدى :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 1 زائر

    لا أحد

    أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 28 بتاريخ الثلاثاء يونيو 28, 2011 5:37 am
    تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
    تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية reddit      

    قم بحفض و مشاطرة الرابط الاقصر اللهب المتوهج على موقع حفض الصفحات

    قم بحفض و مشاطرة الرابط ღ منتدى ثمار الحب ღ على موقع حفض الصفحات
    احصائيات
    هذا المنتدى يتوفر على 176 عُضو.
    آخر عُضو مُسجل هو امير محمد فمرحباً به.

    أعضاؤنا قدموا 3690 مساهمة في هذا المنتدى في 1501 موضوع
    التبادل الاعلاني
    احداث منتدى مجاني
    منع النسخ

     

     مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي ..

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    بنت النيل

     نائب المدير 
     نائب المدير 
    بنت النيل


    الهوايات : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Readin10
    المهنه : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Studen10
    المزاج : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 310
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 3dflag23
    الاسد عدد المساهمات : 210
    نقاط : 384
    تاريخ التسجيل : 18/07/2011
    العمر : 27

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Empty
    مُساهمةموضوع: مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي ..   مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالثلاثاء سبتمبر 06, 2011 2:05 am

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 15929_untitled
    <blockquote>
    قال الناقد الروسي الكبير بيلينسكي عام 1846 للروائي الروسيّ دستويفسكي بعد
    أن قرأ مخطوط روايته الأولى ، الفقراء : " سيأتي على روسيا روائيون كثيرون
    وستنسى روسيا معظمهم ، أمّا أنت فلن تنساك روسيا أبداً ، لأنّك روائي عظيم
    ، المجد والشرف للشاعر الشاب الذي تحب آلهة وحيه سكان السقوف و الأقبية و
    تقول عنهم لأصحاب القصور المذهبة : هؤلاء بشر أيضاً ، هؤلاء إخوانكم "
    </blockquote><blockquote>
    هكذا وصف الناقد بيلينسكي الروائي دستويفسكي قبل أن ينشر الأخير عملاً روائياً واحداً.‏
    </blockquote><blockquote>
    دستويفسكي
    اسم خالد في دنيا الأدب ، لا يسمعه أيٌ كان إلا ويُدرك أن لهذا الاسم
    دلالة عظيمة ، وإن جهلها . علمٌ في الأدب، وعلمٌ في علم النفس . أول مبدع
    نفساني في الآداب العالمية على مر العصور ، وأستاذاً في تحليل الشخصيات
    الإنسانية بصورة تبعث على الدهشة . عبقري في الوصول إلى عمقها ، وسبر
    مكنوناتها بأناة ورقة ، عالم دستويفسكي خاص
    ، فريد من نوعه . مرتبك ، فوضوي ، ينطق بما يعتمل في النفس . تأثير
    دوستويفسكي العظيم لم يقتصر فقط على القرن التاسع عشر ، ولم يقتصر فقط على
    روسيا ، بل تجاوزه ليؤثر في القرن الحادي والعشرين ويؤثر في كل آداب العالم
    . ولم يقتصر على الأدب فقط . بل إن بصيرته النافذة إلى أعماق النفس
    البشرية أثرت عميقاً في علماء النفس وساهمت في تشكيل علم النفس ، وإرساء
    أسسه ومبادئه ومنهم سيجموند فرويد ، حتى قال " لقد تعلمت سلوك النفس
    البشرية من روايات دستويفسكي وهو روائي عظيم حقاً " بالإضافة لعلماء آخرين أمثال آينشتاين الذي قال أن " دستويفسكي يعطيني أكثر من أي مفكرٍ آخر "
    </blockquote><blockquote>
    إن دستويفسكي كما قال عنه سيفروس سنايب و الناقد الروسي ميريجكوفسكي :
    </blockquote><blockquote>
    بعد قراءة أعمال دستويفسكي ، تزول الرغبة بالتكلم عن الأدب وعن أسرار حرفة الكتابة . فإبداع دستويفسكي أكبر
    من الأدب. إنه تعاليم عظيمة عن الإنسان ومغزى حياته ، وعن نشوء الخير
    والشر فيه ، عن حريته وعبوديته ، وعن "هبوطه من فوق" و"طريق عودته إلى
    هناك.. يتمنى لو أن العدالة تسود ، له عدة أفكار تبدو ساذجة ، يعيش أحيانا
    واقعه المرير ويهرب منه أحياناً . روايات دستويفسكي تشبه الحياة مؤلمة وحزينة وأظن أنه كان من أفضل الذين استطاعوا تصوير مافيها من معاناة طويله لا تنتهي
    </blockquote><blockquote>
    إنه ذاهب إلى أعمق حزن وأتعس ألم
    </blockquote><blockquote>
    إلى حزن يٌهلك حتى الموت
    </blockquote><blockquote>
    إلى حيث يحزن الأموات على الأحياء
    </blockquote><blockquote>
    إنه يسطر معاناته على كل جدار
    </blockquote><blockquote>
    لكن هيهات أن يجد ما تبحث عنه
    </blockquote><blockquote>
    مات ولم يجده ,
    </blockquote><blockquote>
    وبقيت أعماله شاهدة على ما يعتمل داخله "
    </blockquote><blockquote>
    إنه
    أوثق بنا صلة وأقرب منا . لقد عاش فيما بيننا ، في مدينتنا الكئيبة
    الباردة ، ولم يخف تعقيدات الوجود الحديث ، وقضاياه العضالة ، ولم يتهرب من
    عذاباتنا ، ولا من عدوى العصر . إنه يحبنا بكل بساطة ، كصديق، كند لنا ،
    ليس من أعماق بعد شعري كتورجنيف ، ولا بسمو المبشر مثل تولستوي . إنه ملك
    لنا بكل أفكاره وبكل عذاباته . " لقد شرب معنا كأسا مشتركة ، وهو مثلنا
    جميعا قد أصيب بالعدوى رغما عن سموه . إنه يغذي حقداً شديداً على ضعف
    الخطاة من أشباهه ، إنه ينفر ويخيف باحتقاره ، وبالقسوة التي يلجأ إليها كي
    يدين ما هو باق على قلوب البشر مقدسا في أنظارهم رغما عن كل شيء ، دون أي
    اعتبار لسائر التهجمات عليه ، وأن دستويفسكي ليؤثر
    فينا أحيانا أكثر مما يفعل الأشخاص من أقاربنا وأصدقائنا الذين نحيا فيما
    بينهم والذين نحبهم . إنه يجعل من نفسه رفيقا لنا في أمراضنا ، شريكا
    لأفعالنا السيئة والحسنة ، وليس ما يجمع البشر مثل العيوب المشتركة . إنه
    يعرف أفكارنا الأكثر خفاء ويعرف مطامح قلوبنا الأكثر إحراجا . وليس من
    النادر أن ينتاب القارئ الذعر تجاه معرفته الشاملة ، تجاه هذا النفوذ
    العميق بصورة لا متناهية إلى وجدان الآخرين . وأنك لتلقى عنده بعضا من تلك
    الأفكار الدفينة التي لا تجسر على الإسرار بها حتى لنفسك ، وأقل من ذلك
    لصديق قريب . وعندما يمنحك هذا الرجل الذي اعترفت له بكل أعماقك غفرانه
    رغما عن ذلك، عندما يقول لك" آمن بالخير ، آمن بالله ، آمن بنفسك " ، فمن
    المؤكد أن في ذلك شيئا يسمو على تحليق الفنان أمام الجمال، شيئا يتجاوز
    عظات ذلك النبي المتجبر، المنعزل عن الجميع "
    </blockquote>هذه الجولة في حياة دستويفسكي ليست
    استعراض لسيرة حياته ، رغم أن سيرة حياته تستحق الكتابة أكثر من مرة نظراً
    لتفوقها أحياناً على أعماله الخالدة . هذه الجولة في حياة دستويفسكي من مذكرات زوجته الثانية آنا غريغور ريفنا دستويفسكي .
    تحتوي هذه المذكرات القصيرة على الكثير من المعلومات عن حياته الشخصية
    اضافة إلى بعض ملامح الأدب الروسي وشخصياته والمؤثرات فيه خلال الفترة التي
    عاشها الروائي الكبير ، أترككم مع هذه الأوراق بترجمة الأستاذ خيري الضامن
    .


    يتبع ..
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    بنت النيل

     نائب المدير 
     نائب المدير 
    بنت النيل


    الهوايات : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Readin10
    المهنه : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Studen10
    المزاج : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 310
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 3dflag23
    الاسد عدد المساهمات : 210
    نقاط : 384
    تاريخ التسجيل : 18/07/2011
    العمر : 27

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Empty
    مُساهمةموضوع: رد: مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي ..   مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالثلاثاء سبتمبر 06, 2011 2:07 am

    مذكرات زوجة الكاتب
    آنا غريغور ريفنا دستويفسكي


    ترجمة : خيري الضامن

    1/3

    لم
    أفكر يوما في كتابة المذكرات، فأنا أفتقر الى الموهبة الأدبية. وكنت طوال
    عمري مشغولة بإصدار مؤلفات الراحل زوجي، فلا وقت عندي لأمور أخرى. إلا أن
    صحتي تدهورت في عام 1910 فعهدت إلى آخرين بمتابعة طبع مؤلفاته، وانزويت
    بعيداً عن العاصمة بطرسبورغ أعيش في وحدة مطبقة. وكان لابد أن أملأ فراغ
    أوقاتي، وإلا فلن يطول بي العمر، أعدت قراءة يوميات زوجي ويومياتي فوجدت
    فيها تفاصيل هامة تستحق أن يطلع عليها الناس. ثم أمضيت خمس سنوات 1911
    -1916 في إعداد هذه المذكرات .


    لكنيسة القديس ألكسندر نيفسكي في
    بطرسبورغ منزلة خاصة في نفسي. إذ أن مقبرتها تحنو على رفات المرحوم زوجي
    فيودور دستويفسكي، واذا جاء أجلي فعسى أن أدفن جنبه، ثم أني ولدت في
    الثلاثين من آب 1846 في عيد القديس نيفسكي بشقتنا الفخمة - 11 حجرة -
    المطلة على ساحة كنيسته. كان المنزل يعج بالضيوف يتفرجون مبتهجين، من
    الطابق الثاني، على موكب الصلبان ومراسم العيد في الساحة. وكانت أمي
    الجميلة للغاية، كما علمت بعد سنين، تقوم على خدمتهم فرحة مستبشرة. وفجأة
    جاءها المخاض. وبعد ساعة رأيت النور. استقبل الضيوف نبأ ميلادي بالتهليل
    وقرع الكؤوس، وتنبئوا لي بمستقبل باهر سعيد. فالقليلون من البشر يولدون في
    مناسبات سارة كهذه، بالفعل ورغم الصعاب والآلام التي عانيتها فيما بعد،
    أعتبر نفسي سعيدة للغاية، ولا أرى حياة أفضل مما عشت.

    أمضيت طفولتي
    مع أخي وأختي في حياة هادئة متمتعين بحنان أمنا السويدية الأصل وأبينا
    الروسي الأوكراني المنشأ. وأنهيت الدراسة الابتدائية في مدرسة كل دروسها،
    ما عدا الدين، تلقي بالألمانية، وأفادتني هذه اللغة كثيرا حينما أمضيت مع
    زوجي عدة سنين في الخارج. التحقت بمعهد التربية لكني لم أكمل الدراسة فيه.
    وفي عام 1866 دخلت دورة الإختزال بإصرار من والدي الذي ربما كان عرافاً
    يقرأ الغيب ويدري أني سألقى سعادتي بفضل هذه المهنة. فقد أبلغني أستاذي في
    الدورة أن الكاتب دستويفسكي يبحث عن شخص يجيد الإختزال ليملي عليه روايته
    الجديدة " المقامر" بحوالي مائتي صفحة وبأجر قدره خمسون روبلا. ورشحني
    الأستاذ لهذه المهمة. خفق قلبي فرحا. كنت، شأن جميع فتيات الستينات، أنشد
    الإستقلال وأبحث عن عمل يجعلني أعتمد على نفسي، لاسيما وأن تلك فرصة نادرة
    للتعرف على كاتب من أحب الكتاب الى والدي، وأنا شخصياً معجبة به للغاية،
    وكنت أبكي عندما أقرأ روايته "مذكرات من بيت الأموات".

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Dostoevsky2

    تصورته
    شيخاً بعمر والدي، عبوسا كئيبا كما يتصوره الكثيرون، وجئت إلى الموعد
    المحدد. كان يقيم في شقة متواضعة بعمارة ضخمة يسكنها تجار وباعة وحرفيون.
    وذكرتني في الحال بالعمارة التي يقيم فيها راسكولنيكوف بطل "الجريمة
    والعقاب". مكتبه واسع بنافذتين مضيئتين أيام الصحو، لكن جوه فيما عدا ذلك
    حالك ساكن يثقل على النفس. وعندما رأيته لأول مرة خيل إلي أنه عجوز بالفعل،
    ولكن ما إن تحدث معي حتى تضاءلت سنه وبدا لي في الخامسة والثلاثين. كان
    متوسط البنية معتدل القامة، شعره كستنائي فاتح أقرب الى الأشقر، مدهون
    ومصفوف بأناقة. وجهه شاحب كوجوه المرضى. يرتدي سترة من الجوخ الأزرق تكاد
    تكون بالية، إلا أن قميصه ناصع البياض بياقة منشأة وردنين بارزين. ولكن ما
    أدهشني فيه هو عيناه، لاختلافهما الواضح. إحداهما بنية، وفي الأخرى بؤبؤ
    متسع يحتل فضاء العين ويأتي على معظم القزحية، مما يجعل نظراته لغزاً من
    الألغاز. في نوبة مبكرة من الصرع سقط دستويفسكي وأدمى عينه اليمنى فوصف له
    الطبيب علاجا بالأتروبين أدى الافراط في استخدامه إلى توسع البؤبؤ لهذا
    الحد.


    في أول لقاء عمل معه حدثني، وهو يدخن السيجارة تلو السيجارة، عن حكم الإعدام الذي صدر بحقه مع جماعة بتراشيفسكي {1} بتهمة التآمر على النظام فى 22 كانون الأول 1849:

    -
    كنت واقفاً فى الساحة أراقب بفزع ترتيبات الإعدام الذي كان سينفذ بعد خمس
    دقائق. كلنا في قمصان الموت موزعين على وجبات من ثلاثة محكومين. وكنت
    الثامن فى التعداد، ضمن الوجبة الثالثة. أوثقو الثلاثة إلى الأعمدة. وبعد
    دقيقتين يطلق الرصاص على الوجبتين الأوليين ويأتي دوري...يا إلهي، ما أشد
    رغبتي في الحياة {2} .
    تذكرت كل ماضي الذي هدرته وأسات استخدامه، فرغبت فى الحياة من جديد وفي
    تحقيق الكثير مما كنت أنوي تحقيقه لأعيش عمراً طويلا... وفى اللحظة الأخيرة
    أعلن وقف التنفيذ. حلوا وثاق رفاقي وقرأوا حكماً جديداً على كل منا. وكانت
    من نصيبي هذه المرة الأشغال الشاقة أربع سنين. فما أعظم سعادتي. أمضيت
    باقي الأيام قبيل الرحيل إلى المنفى أغني و أترنم فى الثكنة تلك يوم. ما
    أشد فرحتي بحياة وهبت إلى من جديد..

    اقشعر بدني من حديثه. وأدهشني
    بصراحته. فهذا الرجل الذي تبدو عليه مظاهر الإنطوائية القاتمة يتحدث عن
    تفاصيل حياته بصدق وإخلاص مع فتاة غريرة يراها لأول مرة. ولم تتبدد حيرتي
    من هذا التناقص إلا بعد أن اطلعت على أوضاعه العائلية وأدركت سبب بحثه عن
    أناس يضع ثقته فيهم ويفضي إليهم بما يعتمل في نفسه. كان يشعر بوحدة قاتلة
    بعد وفاة زوجته الأولى ماريا وشقيقه الأكبر ميخائيل ويعيش محاصراً من قبل
    الخصوم والحساد والدائنين، كانت انطباعات اليوم الأول مرهقة للغاية. عدت
    إلى منزلي فى ساعة متأخرة من الليل وأنا في أقصى درجات الإعياء بحد أن أملي
    على فيودور دستويفسكي أولى صفحات "المقامر". و لأول مرة فى حياتي أرى
    إنساناً ذكياً وطيب القلب إلى هذا الحد، لكنه تعيس بنفس القدر وكان الجميع
    أشاحوا بوجوههم عنه. فتألمت وشعرت بالإشفاق عليه.


    تأخرت عليه
    قليلا في اليوم التالي. فوجدته قلقاً للغاية. قال لي إنه ملزم بإنهاء
    الرواية فى غضون شهر، فإن دائني مجلة " الوقت " التى كان يصدرها شقيقه
    ميخائيل وتعهد هو بتسديد ديونها بعد وفاته هددوه بمصادرة ممتلكاته وزجه في
    السجن. كانت الديون المستحقة حسب الكمبيالات ثلاثة آلاف روبل. وبهذا المبلغ
    باع دستويفسكي الى ناشر اسمه ستيلوفسكي حقوق طبع مؤلفاته بثلاثة مجلدات
    والتزم فضلا عن ذلك بتأليف رواية جديدة يدخل ريعها ضمن المبلغ المذكور.
    وكان ستيلوفسكي أقدم على خطوة غادرة، حيث اشترى قبل ذلك بأبخس الأثمان
    كمبيالات ديون ميخائيل. فعاد إليه المبلغ الذي دفعه إلى دستويفسكي. وها هو،
    فوق ذلك، يشترط تسليم الرواية الجديدة فى مدة غير معقولة، وإلا ستعود
    إليه، حسب العقد الموقع مع دستويفسكي، حقوق نشر مؤلفاته لأجل غير مسمى.
    وكان يأمل بالطبع أن يعجز الكاتب المريض عن الإيفاء بتعهده، لاسيما وأنه
    كان فى عام 1866 ذاته على وشك إنهاء "الجريمة والعقاب".

    صرت أتردد
    عليه يومياً في الثانية عشرة، فيملي علي فصول "المقامر" حتى الرابعة، على
    ثلاث وجبات بنصف ساعة أو أكثر. وفيما بين ذلك نتحدث في شتى الأمور.
    وبالتدريج تحسن مزاجه وتعود على الإملاء، فهو يمارسه لأول مرة. وكان يسره
    بخاصة الرد الى تساؤلاتي عن الأدباء الروس. فهو، مثلا، يعتبر نيكولاي
    نكراسوف صديق الطفولة ويقدر موهبته الشعرية كثيرا. كما يقدر أبولون مايكوف
    كشاعر موهوب وإنسان ذكى ومثال للطيبة. ويرى أن ايفان تورغينيف روائى من
    الدرجة الأولى، لكنه يأسف لأن هذا الأخير أمضى وقتا طويلا فى الخارج ولم
    يعد يتفهم طبيعة روسيا والروس كما ينبغي لكاتب كبير مثله - كانت العلاقة
    بين دوستويفسكي، تورغينيف معقدة يغلب عليها الجفاء والقطيعة -.


    و
    على ذكر الخارج أبلغني ذات مرة، وكان فى حالة من اليأس و القنوط، أنه مقدم
    على اختيار أحد طرق ثلاثة، فإما الرحيل إلى القدس ليقيم مع الطائفة
    الأرثوذكسية الروسية هناك ربما لآخر العمر، وإما الهجرة الى أوروبا ليغرق
    في القمار الذي أولع به، و إما الزواج للمرة الثانية لعله يجد السعادة
    والفرحة في أحضان العائلة. وكانت كفة القدس هى الراجحة من حيث جدية نوايا
    دستويفسكي، فقد عثرت بين أوراقه فيما بعد على رسالة مؤرخة في 3/6/1863 من
    رئيس اتحاد الأدباء الروس آنذاك إلى القنصل الروسي فى القسطنطينية لتسهيل
    أمر رحيله، وسألني رأيي في هذا الخيار الذي كان سيغير مجرى حياته الفاشلة
    تغييراً جذرياً. تحيرت فى الجواب. بدت لى نيته فى الرحيل إلى القدس
    العثمانية أو إلى كازينوهات أوروبا غامضة و خيالية ولعلمي بوجود عوائل
    سعيدة بين معارفي وأقربائي نصحته أن يبحث عن أمنيته المنشودة فى الأسرة.
    فعلق قائلا:

    - وهل تتصورين بأن امرأة ستقبلني زوجاً ؟ و أية امرأة أختار؟ راجحة العقل أم طيبة القلب؟
    - راجحه العقل طبعاً، كي تناسبك.
    - كلا، أفضل امرأة طيبة القلب تشفق على وتحبني.


    واصلنا
    العمل فى " المقامر" حتى غدا واضحاً في آخر الأسبوع الثالث أننا سنتمكن من
    تسليم الرواية في الموعد. وصرنا كلانا نشاطر أبطالها حياتهم. فكان لى
    بينهم، كما لدستويفسكي، شخوص أحبهم وآخرون أنفر منهم. أشفقت على الجدة التى
    خسرت أموالها وعلى مستر استلي، لكنى امتعضت من بولينا ألكسندروفنا ومن
    البطل الرئيسي أليكسى ايفانوفيتش، فيما التزم دستويفسكى جانب هذا الأخير
    وأكد أنه شخصياً جرب الكثير من مشاعر البطل و انطباعاته، أنجز دستويفسكى
    روايته فى 26 يوماً وسلمها إلى الشرطة، مقابل ايصال، ليتفادى غدر الناشر
    الماكر. و قبضت أجرتي، لكن علاقتي بالكاتب لم تنقطع. فقد أبدى رغبة فى
    زيارة عائلتي. ودعوته الى بيتي بعد أيام. أعجبت به أمي كل الإعجاب بعد أن
    كانت فى البداية متهيبة مرتبكة لزيارة الكاتب " الشهير" و هو، والحق يقال،
    جذاب للغاية يسحر، كما لاحظت فيما بعد، حتى خصومه الذين لا يرتاحون إليه
    عادة، عرض علي أن نواصل العمل فى الجزء الأخير من "الجريمة و العقاب" هذه
    المرة. وكنت مترددة بعض الشيء، لكني وافقت عندما رأيته مصراً.


    بعد
    ثلاثة أيام زارنا من جديد دون سابق إنذار. وطلب أن آتى إليه لتدقيق شروط
    العمل. ولكنى حينما جئته، فى الثامن من تشرين الثاني 1866، فوجئت به
    يصارحني بحبه ويرجوني أن أقبل به زوجاً... كان منفعلا ومبتهجاً حتى بدا لي
    فى سن الشباب. سألته عن سبب ابتهاجه فأجاب أنه رأى حلماً فى المنام.
    فقهقهت، لكنه أوقفني قائلا: "لا تسخري مني. أنا أؤمن بالأحلام. و أحلامي
    تتحقق دوماً. حينما أرى المرحوم شقيقي ميخائيل أو يحضرني طيف والدي في
    المنام لا بد أن تحل بي مصيبة. لكنى هذه المرة رأيت جوهرة براقة بين
    مخطوطاتي فى هذا الصندوق، ثم توالت أحلام أخرى ولا أدري أين اختفت الجوهرة
    ". فقلت له: " الأحلام تفسر عادة بالمقلوب"، وأسفت لما قلت. فقد أمتقع وجهه
    وسأل: " تعتقدين أنني لن ألقى السعادة و أن ذلك مجرد أمل واه؟ ". وأجبته: "
    والله لا أدري. ثم أننى لا أصدق الأحلام ". وأختفى كل أثر للإبتهاج. ودهشت
    لسرعة تبدل مزاجه. ثم انتقل بالحديث الى رواية يخطط لكتابتها، فتحسن حاله
    رأساً و أخبرني أنه لم يتوصل بعد إلى خاتمة جيدة. ففي الرواية فتاة، وهو
    غير ملم بارتعاشات نفوس الفتيات. ورجانى أن أساعده. عرض علي بالخطوط العامة
    حبكة الرواية، فأدركت أنه يقص علي مشاهد من حياته تلقي الأضواء على طفولته
    القاسية وعلاقته بالمرحومة زوجته وأقربائه والملابسات الأليمة التى شغلت
    الفنان عن عمله المحبب عدة سنين. وكان المفروض أن تنتهى الرواية بعودة
    الفنان إلى الحياة من خلال حب يشفيه وينقذه من وحدته وشيخوخته المبكرة. ولم
    يخطر ببالي ساعتها أنني كنت المقصودة ببطلة الرواية المزعومة. لكنه باغتني
    مرتبكا:

    - ما رأيك؟ هل تستطيع فتاة شابة أن تحب فنانا عجوزاً مريضاً مثقلا بالديون؟.. لنفترض أن الفنان هو أنا، البطلة أنتِ، فما رأيك؟
    -
    لو كان الأمر كذلك فعلا لأجبتك: أحبك وسأظل على حبي مدى العمر. وبعد ساعة
    أخذ فيودور دستويفسكي يخطط لمستقبلنا ويسألني رأيي في التفاصيل. وكنت عاجزة
    عن الخوض فيها من فرط السعادة. اتفقنا على كتمان سر الخطبة مؤقتا إلى أن
    تنجلى الملابسات.
    و عندما ودعني هتف مبتهجاً: وجدت الجوهرة أخيراً.
    و أجبته: عسى ألا تكون حجراً.



    أظن
    أن أمي فرحت لنبأ خطبتي. فهي تدرك بالطبع أني سأعاني الكثير فيما لو تزوجت
    من رجل مصاب بداء عضال ويفتقر إلى المال. لكنها لم تعمد إلى إقناعي
    بالعدول عن الزواج، كما فعل آخرون بعدها. وللحقيقة أقول أن دستويفسكي أبدى
    طوال 14 عاماً من حياتنا الزوجية منتهى الطيبة في معاملة والدتي، وبعد
    أسبوع افتضح سر الخطبة على غير المتوقع. أفضى به دستويفسكي نفسه إلى حوذيه
    في لحظة ابتهاج. فأبلغ هذا الأخير خادمة نقلت الخبر في الحال إلى بافل، ابن
    دستويفسكى المتبنئ. غضب هذا على " أبيه العجوز"، فكيف يجوز له أن يبدأ
    الحياة من جديد دون أن يستشير " ابنه "؟. وانسحب غضب الفتى علي طبعاً، إلا
    أن موقفه مني غدا أكثر ليونة بمرور الزمن. رغبت فى معرفة كل شئ عن
    دستويفسكي. وما كانت أسئلتي المتلاحقة لتضايقه. حدثنى عن حبه لأمه و أخيه
    المرحوم ميخائيل وأخته الكبرى فاريا، لكنه لم يبد حماساً فى الكلام عن
    اخوته وأخواته الأصغر. واستغربت من غياب كل ما يشير الى غرامه بامرأة ما في
    شبابه. وأعتقد أن السبب هو تفرغه المبكر للكتابة. فالنشاط الثقافي أزاح
    حياته الشخصية إلى المرتبة الثانية، ثم أنه تورط فى عمل سياسي دفع ثمنه
    غالياً وصرفه عن الإهتمام بأموره الخاصة، لم يكن يميل إلى تذكر المرحومة
    زوجته، لكنه يذكر خطيبته الأولى آنا كورفين بكل خير، ويأسف على فسخ خطبتهما
    لإختلاف الطباع والاراء كما يقول. وظل حتى النهاية يحتفظ بعلاقات طيبة
    معها. وتعرفت عليها أنا أيضاً بعد ست سنوات من زواجي فربطت بيننا أواصر
    صداقة .


    سألته مرة: لمِ لم تتقدم إلي بخطبة عادية كما يفعل الجميع، وجئت بمقدمات طويلة عريضة بشكل " رواية " مختلقة؟ وأجاب:

    -
    الحقيقة كنت يائساً، وكنت أعتبر الزواج منك تهوراً وجنوناً. فالتفاوت
    بيننا رهيب. أنا شيخ عجوز تقريباً وأنتِ فى عمر الطفولة وفارق السن بيننا
    ربع قرن. أنا مريض كئيب سريع الإنفعال، وأنت مفعمة بالحيوية والمرح. أنا
    إنسان مستهلك أكلت عمري وتجرعت المصائب و الأهوال. وأنتِ تعيشين حياة هانئة
    والمستقبل كله أمامك. ثم أني فقير ومكبل بالديون. فماذا أنتظر؟
    - إنك
    تبالغ يا عزيزي. فالتفاوت بيننا ليس فيما تقول. التفاوت الحقيقي أنك اخترت
    فتاة متخلفة لن تقترب شبراً من مستواك الثقافي فى يوم من الأيام.
    - كنت
    متردداً متهيباً فى الخطبة. أخشى ما أخشاه أن أغدو مثاراً للسخرية فيما لو
    رفضتِ. فكيف يحق لرجل كهل قبيح مثلي أن يطلب يد فتاة شابة مثلك؟ كنت أتوقع
    أن تردي علي بأنك تحبين شخصاً آخر. ولو جاء جوابك على هذا النحو لكان ضربة
    قاسية لي، فأنا أعاني من وحدة نفسانية خانقة وكنت أريد أن أحتفظ بصداقتك
    على الأقل. ولذا أردت أن أستطلع رأيك في البداية، من خلال مخطط رواية
    وهمية. كان أسهل علي عندئذ أن أتحمل رفضك. إذ سيكون موجها ضد بطل الرواية
    وليس ضدي شخصياً. وعلى أية حال أرى أن تلك الرواية المختلقة أفضل رواياتي
    على الإطلاق. فقد عادت علي بالثمار رأساً.


    تلقى دستويفسكي رسالة
    من مجلة " البشير الروسي" الصادرة فى موسكو تطالبه بالجزء الثالث من "
    الجريمة والعقاب". وكنا نسينا هذه الرواية فيما نحن فيه من أفراح. فعاد
    دستويفسكي يملى علي بقية الرواية بهمة ونشاط. تحسن مزاجه، فتحسنت صحته، حتى
    أن الشهور الثلاثة التى سبقت زفافنا لم تشهد سوى ثلاث أو أربع نوبات من
    الصرع {3} ، مما جعلنى
    آمل بأن هذا الداء اللعين سيخف فيما لو توافرت لزوجي حياة هادئة سعيدة.
    وهذا ما حدث بالفعل. فالنوبات التى كانت تنتابه كل أسبوع تقريباً لم تعد
    تتكرر فى السنوات التالية إلا لماماً. ولم يكن الشفاء من هذا المرض بالأمر
    الممكن، لا سيما وأن دستويفسكي تهاون في العلاج، بل وأهمله لاقتناعه بعدم
    جدواه. إلا أن تقلص النوبات كان بالنسبة إلينا هبة عظيمة خلصته من الرواسب
    النفسانية الثقيلة بعد كل نوبة، وخلصتني من الدموع والآلام التي تكويني
    عندما يقع فريسة للصرع بحضوري. كانت نياط قلبى تتمزق وأنا أسمعه يزعق بصوت
    لا يشبه أصوات البشر ثم أراه يتلوى ويخر على الأرض متشنجاً. و عندما ألفيته
    لأول مرة يتضور ألماً ويصرخ ويئن ساعات بلسان متلعثم ووجه ملتو وعينين
    جامدتين ظننته مجنوناً مختل العقل. لكنه، والحمد لله، كان يغفو طويلا
    ويستيقظ بعد ذلك سوياً كالآخرين، لولا الكآبة التي تظل تلازمه أكثر من
    أسبوع وكأنه فقد أعز ما لديه فى الدنيا على حد تعبيره.


    جاءني
    ذات يوم، في عز الشتاء، يرتجف من البرد بمعطف خريفي، فأسرعت إليه بالشاي
    الساخن وسألته مستغربة: أين معطف الفرو؟ فأجابني متردداً : قيل لي أن الجو
    دافئ. ثم أضاف موضحاً أن أقرب أقربائه، " ابنه " بافل وأخاه الأصغر نيكولاي
    وكذلك إميليا زوجة المرحوم ميخائيل، طلبوا منه نقوداً لحاجة ماسة وعاجلة.
    فاضطر أن يرهن معطفه الفرائي. ثارت ثائرتي ورحت أبكي وأزعق: كيف يقول
    أقرباؤك القساة أن الجو دافئ فهو لا يتناول قهوة الصباح بدون قشدة.، قبيل
    الظهر يأكل بافل طيراً مشوباً، فتقدم لنا الخادمة على الغداء الطيرين
    المتبقيين فلا يكفياننا نحن الثلاثة.، يختفي الثقاب أحيانا مع أن علباً
    كثيرة منه كانت في البيت أمس. و كذا يحدث لأقلام الرصاص المبرية. وتثور
    ثائرة دستويفسكي عندما يريد التدخين فيصرخ في وجه فيدوسيا. ويهز بافل
    كتفيه: "أنظر يا بابا، لم تحدث أشياء كهذه عندما كنا لوحدنا" ..والخادمة
    المسكينة تخشى غضب دستويفسكي حتى الموت، والأصح أنها تخشى أن تصيبه نوبة
    مفزعة بسبب ذلك، كما حدث له مراراً بحضورها، كانت متزوجة من موظف سكير توفي
    وتركها وأطفالها الثلاثة في فقر مدقع. بلغ خبرها مسامع دستويفسكي فأخذها
    خادمة مع صغارها. و حدثتني، و الدموع تترقرق في عينيها، عن طيبته البالغة
    وكيف كان يدخل على الأطفال ليلا عندما يسمع سعالا أو بكاء فيغطي الواحد
    منهم ويهدهده، وإذا لم يفلح في ذلك يوقظها لتسهر على المريض.



    في
    الأسبوع الخامس بعد عقد القران بدا شهر العسل فعلا. فالمتاعب والإهانات
    التي تعرضت لها خلال هذه الفترة من أقارب دستويفسكي حطمت أعصابي لدرجة
    جعلتني أفكر في الطلاق. صارحت زوجي بتلك المتاعب، و ما كان يعرف بالإهانات
    من جانب " ابنه " خصوصاً، فلامني على سكوتي وبدد شكوكي ومخاوفي. وشد العزم
    على السفر غداً الى موسكو ومن ثم، ربما، إلى الخارج، إذا تمكن من إقناع
    السيد كاتكوف، رئيس تحرير " البشير"، أن يمنحه سلفة جديدة، استقبلني فيرا،
    شقيقة زوجي، في موسكو خير استقبال. إلا أن أبناءها السبعة عاملوني ببرود.
    أدهشني موقفهم وأحزنني، حتى علمت سره فيما بعد. كانوا يحبون عمتهم إيلينا
    المتزوجة من رجل شارف الموت ويريدون لها بعد وفاته أن تتزوج من خالهم
    فيودور دستويفسكي، ليقيم في موسكو دائماً، فهم يحبونه هو الآخر حباً جماً،
    ولكي أخفف من الموقف العدائي الذي قوبلت به في بيت عديلتي أبديت متعمدة بعض
    الإهتمام بشاب من زوار البيت لأعيد الإعتبار لنفسي. لكن دستويفسكي لم
    يفهمني. وتأكد لي أنه يغار على كثيراً، فرأيت ألا أتمادى في الكلام والمرح
    مع أي غريب بحضوره. فالغيرة تؤذيه، إذ خرج عن طوره ساعتها و انهال علي
    بتقريع شديد حينما عدنا الى الفندق الذي نزلنا فيه. وفيما بعد تكررت "
    نوبات " الغيرة حتى في الخارج. ولم أفلح في اجثثات هذه الصفة الذميمة في
    طباع دستويفسكي إلا بالتواضع فى المظهر و الملبس والتحفظ الشديد بحضور
    الرجال، حتى أن رفيقاتي أكدن لي عندما عدنا إلى الوطن أنني "شخت" سريعا في
    الغربة. ولم يكن ذلك ليسيئني، فزوجي يحبني على ما أنا عليه.


    أمضينا
    فى موسكو أياما لا تنسى. كنا كل صباح نتفرج على أبرز معالمها ونتفقد كنائس
    الكرملين وقصوره. وزرنا قبر المرحومة ماريا والدة زوجي التي كان يقدس
    ذكراها - ولد فيودور دوستويفسكى في موسكو في الثلاثين من تشرين الأول 1821
    -. وكنا نتناول طعام الغداء كل يوم تقريبا في منزل عديلتي. تحسنت علاقتي مع
    أبنائها وصرت ألازم زوجي طول الوقت حتى تبدد الشعور بالغربة و النفور الذي
    كاد يستولي علي تجاهه في الأسابيع الأخيرة من حياتنا فى بطرسبورغ. وعاد
    إلي مرحي وحبوري. وأكد لي دستويفسكي أنه استعاد هنا في موسكو، " زوجته آنا "
    بعد أن كاد يفقدها مؤخراً في بطرسبورغ وأن "شهر العسل" الحقيقي قد بدأ
    بالنسبة إليه.


    عدنا من موسكو إلى بطرسبورغ بعد أن وافقت مجلة
    "البشير" على منح دستويفسكي سلفة جديدة بألف روبل. أعلن زوجي عن نيتنا في
    السفر إلى الخارج. فواجه جميع أقربائه هذا النبأ بالإستنكار. وطالبوه أن
    يترك لهم، فيما لو سافرنا بالفعل، نقوداً تكفي لعدة شهور. ويعنى ذلك بالطبع
    إلغاء الرحلة أصلا، كنا نأمل أن يرتاح دستويفسكي فى الخارج شهراً ليشرع في
    كتابة بحثه المطول عن الناقد "بيلينسكي ". لكن إميليا زوجة أخيه أصرت أن
    يترك لها ولأولادها خمسمائة روبل. و لا بد من اعتماد مائتي روبل لإعالة "
    ابنه" بافل في فترة غيابنا. لم يفلح دستويفسكي فى إقناع إميليا بتأجيل
    الدفع، وما كان بوسعه أن يمتنع عن مساعدة عائلة المرحوم أخيه. فاستقر رأيه،
    آسفاً، على تأجيل السفر. ورأيت أن أنقذ الموقف بالتضحية بجهاز العرس، رغم
    فظاعة هذه الخطوة. لم تعترض أمي على قراري وقالت: "يؤسفني أن تجري الأمور
    بهذه الصورة، لكنكما أن لم توثقا أواصر الزواج الآن لن تحافظا عليه أبداً
    ". وكان علي أن أقنع زوجي بضرورة رهن الأثاث و الحلي. وعندما فاتحته
    بالموضوع، بعد أن صلينا معا في كنيسة المعراج، رفض رفضاً باتاً. رجوته أن
    ينفذ حبنا ويمنحني شهرين أو ثلاثة من حياة هادئة سعيدة، وإلا سيفسد كل شئ.
    وانهمرت دموعي فاسقط فى يده ووافق على السفر مكرهاً، وكانت ثمة إشكالات
    بخصوص جواز السفر، إذ أن دستويفسكي محكوم سياسي تحت رقابة الشرطة ولا بد له
    من الحصول على ترخيص من الحاكم العسكري إضافة إلى الإجراءات الرسمية
    المعتادة. وساعده في ذلك موظف من المعجبين بأدبه. وارتحلنا لنقضي فى الخارج
    ثلاثة شهور، لكننا لم نعد إلى روسيا إلا بعد أربع سنين!


    أمضينا
    في برلين يومين في جو مطار غائم، ثم ارتحلنا إلى درسدن. قررنا أن نبقى
    فيها أكثر من شهر حتى يتمكن دستويفسكي من إنجاز بحثه المعقد في النقد
    الأدبي. كان يحب درسدن أساساً بسبب معرضها الشهير وحدائقها الزاهرة. وكان
    يقف الساعات الطوال متاثرا منفعلاً أمام عذراء السيستين {4}
    التي يعتبرها أسمى مظهر لعبقرية الإنسان. " ورد ذكر عذراء رافائيل، على
    سبيل المقارنة والتشبيه، في العديد من مؤلفات دوستويفسكي، وبخاصة الجريمة
    والعقاب". وفيما بعد، فى فلورنسا، أعجب بلوحة رافائيل "يوحنا المعمدان فى
    الصحراء "، وفى بازل كانت له وقفة طويلة مؤثرة أمام لوحة هانز هولبن {5}
    "يسوع ميتاً " التي تركت في نفسه شعوراً بالإنسحاق الفظيع انعكس في رواية "
    الأبله". وكان يقيم وزناً للوحات تيتسيان وموريليو ورمبرانت وفان دايك
    بخاصة.

    في درسدن انكب دستويفسكي على قراءة ألكسندر هيرتسن أحد أعمق
    المفكرين الروس الذين كان لهم تأثير كبير في أدبه. وفى أوقات الفراغ يطلق
    العنان لبعض عاداته المحببة. فكان يتناول يومياً سمكا مقلياً طازجاً فى
    مطعم مطل على نهر إلبا، ويتمشى فى حديقة غروسين غاردن والمسافة إليها من
    الفندق لا تقل عن سبعة كيلو مرات ذهاباً وإياباً. ولم يكن يتخلى عن هذه
    الجولة حتى فى الجو الممطر. فى تلك الحديقة مطعم تعزف جوقته أصنافاً من
    الموسيقى. ولم يكن دستويفسكي على إلمام كبير في فنونها، لكنه يتمتع بموسيقى
    موزارت وبتهوفن وروسينى ولا يحب ريتشارد فاغنر " ربما لأن دستويفسكي تربى
    على تقاليد الموسيقى الروسية الكلاسيكية وعلى رومانسية غلينكا" .


    وكنا
    فى الأمسيات نتجادل فى مواضيع شتى. وفي الجدال تطفو خلافاتنا الفكرية، حول
    "المسألة النسوية " خصوصاً. فقد كنت، من حيث السن و الميول، من جيل
    الستينات الذي تميزت نساؤه بالنزعة التحررية و الرفض العدمي. وكان فيودور
    دستويفسكي لا يحب الروافض ويشمئز من " رجولتهن" وخشونتهن وعدم اكتراثهن
    بمظاهر الأنوثة. وكان يؤلمني في نقاشات زوجي معي أنه ينكر على نساء جيلي
    صلابة العود والمثابرة في بلوغ الهدف المنشود، لكن موقفه من المرأة تبدل
    تماماً فى السبعينات عندما ظهرت على المسرح نساء مثقفات وذكيات فعلا ينظرن
    إلى الحياة بمنظار حاد. وفي تلك الفترة أكد في مجلته "يوميات كاتب " أنه
    يعلق آمالا عريضة على المرأة الروسية التي "أخذت تبدي المزيد من المواظبة
    والجدية والصدق والعفة والتضحية و البحث عن الحقيقة"، على حد تعبيره.

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. AlexanderII

    أشيع
    فى درسدن أن امبراطور روسيا تعرض لمحاولة اغتيال أثناء زيارته للمعرض
    الدولي في باريس و أن إرهابياً من أصل بولوني أصابه بعيارات نارية. كان
    لهذا النبأ وقع الصاعقة فى نفس دستويفسكي. فهو من المعجبين بالقيصر ألكسندر
    الثاني الذي ألغى القنانة وحرر الفلاحين منها وأقدم على الإصلاح. ثم أن
    دستويفسكي من المتحمسين للنظام الملكي عموما ويدعو إلى اتحاد الشعب مع "
    القيصر المحرر" المتنور. زد على ذلك أنه مدين للإمبراطور الحالي باسترجاع
    حقوقه المدنية كنبيل أباً عن جد، وقد سمع له القيصر، بمناسبة اعتلائه
    العرش، بالعودة إلى بطرسبورغ بعد الإقامة الجبرية فى سيبيريا، أسرعنا حالا
    إلى قنصليتنا فى درسدن لتسجيل حضور ولإستنكار هذه الفعلة الشنيعة. اختطف
    لون دستويفسكي وكان في اضطراب نفساني شديد، حتى أنه مضى الى القنصلية
    راكضاً تقريبا. وكنت أخشى عليه من نوبة صرع جديدة. وقد أصابته فعلا في تلك
    الليلة. ومن حسن الحظ أن محاولة الإغتيال كانت فاشلة. إلا أن زوجي ظل حزينا
    متألما للغاية. فتلك هى المحاولة الثانية لإغتيال القيصر الذي يحترمه
    ويعزه، مما يدل على أن شباك التآمر عليه ضربت جذورها عميقاً.





    يتبع..
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    بنت النيل

     نائب المدير 
     نائب المدير 
    بنت النيل


    الهوايات : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Readin10
    المهنه : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Studen10
    المزاج : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 310
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 3dflag23
    الاسد عدد المساهمات : 210
    نقاط : 384
    تاريخ التسجيل : 18/07/2011
    العمر : 27

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Empty
    مُساهمةموضوع: رد: مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي ..   مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالثلاثاء سبتمبر 06, 2011 2:09 am

    مذكرات زوجة الكاتب
    آنا غريغور ريفنا دستويفسكي

    ترجمة : خيري الضامن

    2/3

    هدأ روع زوجي فعاد إلى مقالته المطولة عن بيلينسكي {6}
    بعد أن عذبته كثيراً لتعقيدها, حتى كرر صياغتها خمس مرات وجاءت رغم ذلك،
    بشكل لا يرضيه. كان يريد أن يفضي بكل ما تراكم في نفسه ويعرض رأيه الصادق
    فى هذا الناقد الروسي الكبير الذي يقدر موهبته النقدية ويعترف بتأثره
    وبفضله في تشجيع أدب دستويفسكي فى شبابه، حتى أكد قائلا: " تبنيت تعاليمه
    آنذاك بمنتهى الحماس ". لكنه تحول واتخذ موقفاً عدائياً إزاء دستويفسكي في
    النهاية. وما كان بوسع زوجي أن يسامح بيلينسكي على تهكمه وازدرائه
    لمعتقداته الدينية، فضلا عن الخلافات الفكرية الاخرى، حول الإشتراكية
    الإلحادية بخاصة، ولعل الانطباعات الثقيلة التي خلفتها العلاقات بين
    دستويفسكي وبيلينسكي تعود أساساً الى همهمات ووشايات " الأصدقاء " الذين
    أقاموا وزناً لموهبة دستويفسكي في بادئ الأمر ثم انقلبوا عليه لأسباب غير
    مفهومة، فتأزمت علاقاته مع نكراسوف وتورغينيف خصوصاً، ولقيت تلك المقالة
    القيمة مصيراً مؤسفاً. فقد ضاع أثرها. بعثها دستويفسكي من درسدن إلى موسكو،
    ولم نعلم بضياعها إلا بعد خمس سنوات. وفي طريقها إلى الضياع وقعت في يد
    الشاعر مايكوف , فكتب الى دستويفسكي عن صراحتها حيث إنها لا تصلح للنشر إلا
    ضمن مذكرات ما بعد الموت.



    بعد ثلاثة أسابيع من مكوثنا في
    درسدن فاجأني زوجي بتلميح صريح إلى كازينوهات القمار وقال إنه لو كان هنا
    لوحده لعرج عليها من كل بد. ثم تطرق إلى هذا الموضوع أكثر من مرة فرأيت ألا
    أقف حجر عثرة فى طريقه. اقترحت عليه أن يسافر إلى هامبورغ فمانع فى
    البداية ثم وافق لشدة ما كان راغباً أن "يجرب حظه". وما أن مر يومان أو
    ثلاثة حتى تواردت علي رسائل منه يبلغني فيها بخسائره ويطلب نقوداً، فبعثت
    إليه بها، خسرها من جديد. وتكرر الحال مراراً، حتى عاد إلى درسدن خالي
    الوفاض، لكنه فرح كثيراً عندما حاولت أن أطيب خاطره كيلا يأسف على ما خسر.
    وكان ما دفعني إلى ذلك طبعاً هو خوفي على صحته، كانت رحلته الفاشلة إلى
    هامبورغ أثرت في نفسه كثيراً، فنسب أسباب الخسارة إلى الإستعجال و إلى
    تجريب أساليب متنوعة قادته إلى الفشل، في حين كانت فرصة الإثراء قاب قوسين
    أو أدنى. وراح يقنعني بأنه سيتبع طريقة جديدة لا بد أن تؤدي إلى الفوز.
    ورأينا أن نتوقف في بادن لأسبوعين فقط كي يجرب حظه في القمار من جديد، كنا
    تلقينا حوالة من مجلة " البشير" فغادرنا درسدن بأسف، بهاجس لا يبشر بخير.
    أمضينا في بادن خمسة أسابيع، في كابوس متواصل قيد زوجي بسلاسل من حديد.
    كانت حساباته فى الفوز صحيحة فيما لو طبقها رجل إنجليزي أو ألماني بارد
    الأعصاب وليس دستويفسكي العصبي الذي تجاوز كل الحدود. بعد أسبوع خسر كل ما
    نملك من مال. فاضطررنا أن نرهن حاجياتنا في الكازينو حتى هدية الزفاف.

    ذات
    مرة جاءني بكيس ملئ بالنقود. حالفه الحظ أخيراً، لكنه لم يتوقف، فخسرها من
    جديد. وأقول صراحة إني تلقيت " ضربات المصير " تلك بأعصاب باردة. فقد
    جلبناها لأنفسنا بمحض اختيارنا. وتأكد لي أن دستويفسكي لن يكسب شيئاً و أن
    توسلاتي إليه بالكف عن اللعب لا جدوى منها، في البداية استغربت من هذا
    الرجل الذي تحمل بمنتهى البسالة آلام السجن و الإعدام الوشيك و النفي،
    الأشغال الشاقة ووفاة أخيه وزوجته، لكنه عاجز عن التوقف و الإمتناع عن
    المجازفة بآخر فلس. وكنت أعتبر ذلك أمراً لا يليق بمنزلته، ويصعب على أن
    أعترف بنقطة الضعف المشينة هذه في طباعه. لكنني سرعان ما أدركت أن ذلك ليس
    مجرد ضعف إرادة، بل هو مرض لا علاج له سوى الفرار من هذا الجحيم. فقد كان
    دستويفسكي عندما يعدم الوسيلة للحصول على المال يقع فراسة لحزن بالغ حتى
    أنه يبكي بأحر الدموع ويركع أمامي طالباً الصفح على ما يسببه لي من آلام.
    وكنت أسعى إلى تهدئته وألجأ إلى شتى السبل لصرف أنظاره عن الولع بالقمار.

    عدنا،
    بسبب الإفلاس هذه المرة، إلى ممارسة رياضة المشي وتجولنا فى قلاع بادن
    وحصونها القديمة، وكانت كل جولة تستغرق نهاراً كاملا. و عندما تصلنا
    الحوالات المالية تتوقف جولاتنا وتنتهي حياة الدعة والإطمئنان إذ تبدأ
    كوابيس القمار من جديد، ولم يكن لدينا معارف وأصدقاء في هذه المدينة. ذات
    مرة التقينا صدفة بالكاتب الروسي الكبير إيفان غونتشاروف، ولم يعجبني مظهره
    ولهجته. كان أشبه بموظف حكومي عادي.، زار دستويفسكي، بدوني، منزل إفان
    تورغينيف المقيم في بادن آنذاك، وعاد منه في أقصى درجات الإنفعال، و أخيراً
    هربنا من جحيم بادن إلى نعيم جنيف. استأجرنا شقة متواضعة بعد أن تعودنا
    على شظف العيش. و عدنا الى حياة النظام: دستويفسكي يكتب ليلاً، ويستيقظ
    متأخراً، في الحادية عشرة صباحاً كما تعود في بطرسبورغ. وبعد الفطور يواصل
    عمله، فيما أمضي للنزهة كما أوصاني الطبيب " كنت حاملاً ". وفي الثالثة
    ظهراً نتغدى فى أحد المطاعم ويرافقني زوجي إلى المنزل، ثم يرج على مقهى
    يصرف فيه ساعتين فى مطالعة جرائد روسية وأجنبية. وحوالي السابعة مساء نتمشى
    كثيراً كالعادة. وبعد ذلك يملي على دستويفكسي نتاجاً جديداً أو يقرأ كتبا
    فرنسية. وفى شتاء 1868 قرأ مجددا " بؤساء " فيكتور هيجو وكان معجباً خصوصاً
    ببلزاك وجورج صاند. " ترجم دستويفسكي رواية "أوجيلي غرانده" إلى الروسية،
    وكان لأدب بلزاك صدى في مؤلفاته، فثمة تشابه بين أبطال " الأب غوريو" و
    "الجريمة العقاب" وكذلك بين أبطال " الحانة الحمراء" و "الأخوة كارامازوف
    "، كما ترجم دستويفسكي عام 1844 قصة جورج صاند "الأخير من سلالة الديني"،
    وكان لنتاج هذه الكاتبة تأثير كبير عليه في مطلع حياته الأدبية " .

    وفى
    جنيف أيضا لم يكن عندنا أصدقاء. دستويفسكي بطبيعته غير ميال إلى البحث عن
    معارف جدد. ولم يلتق هناك أحداً من المعارف القدامى، ما عدا الشاعر الروسي
    المعروف نكولاي أوغاريوف الذي أخذ يتردد علينا كثيراً ويزودنا بالكتب
    والمجلات، حتى أنه صار يقرضنا فى بعض الأحيان مبلغاً زهيداً نعيده إليه
    كلما تحسنت أحوالنا. كان طاعن السن وكنا نرتاح إليه، إلا أنه انقطع عنا بعد
    ثلاثة أشهر. فقد مرض ونقله أصدقاؤه إلى إيطاليا للعلاج، ولسوء الحظ سرعان
    ما خابت آمالنا في نعيم جنيف. تردت الأحوال الجوية وأثرت العواصف والأمطار
    وتقلبات الطقس اليومية في صحة زوجي فتوالت عليه نوبات الصرع. كان آنذاك، في
    خريف 1867، شرع في تأليف "الأبله"، ولم يكن راضيا عن الفصول الأولى من
    الرواية، كعادته فى موقفه من كل ما يكتبه. كان يعجب أشد الإعجاب بالفكرة كل
    رواية، لكنه ما إن يفرغ منها حتى يشعر بالضيق و عدم الرضا.


    في
    جنيف ولدت ابنتنا البكر صوفيا في 22 شباط 1868. ولشد ما عانيت من عسر
    الوضع، ولشد ما تألم دستويفسكي وصلى وبكى خائفاً علي من الموت. وفيما بعد
    وصف مشهد الولادة في رواية " الشياطين " كان دستويفكسي أباً من أرق الآباء.
    لكن الحظ لم يحالفنا إذ مرضت الطفلة وتوفيت في شهرها الثالث. ولم تكن
    لحزننا حدود. كنا نتردد على المقبرة كل يوم نحمل الزهور ولذرف الدموع. ولم
    يعد البقاء بهذه المدينة في طاقتنا.


    استقر رأينا على الرحيل إلى
    فيينا. ولا أذكر طوال 14 عاما من حياتنا الزوجية أننا عشنا صيفاً حزيناً
    لهذا الحد كصيف 1868 في تلك المدينة، حتى لكأن الحياة توقفت وتجمدت بالنسبة
    إلينا. كل أحاديثنا وذكرياتنا تدور حول الفقيدة وكل طفل نلقاه فى الشارع
    يذكرنا بها، واصل زوجي بشق الأنفس كتابة " الأبله "، لكنها لم تجلب له
    السلوى. فسافرنا إلى ميلانو، وأدى تبدل الموقف وانطباعات الطريق إلى بعض
    التحسن في مزاج دستويفسكي، لكن خريف هذه المدينة بارد مطير، وليس في
    مكتباتها جرائد روسية، فانتقلنا بعد شهرين إلى فلورنسا عاصمة إيطاليا
    آنذاك. ولحسن الحظ وجدنا في مكتبتها الرائعة جريدتين روسيتين مكنتا زوجي من
    الإطلاع على الأوضاع فى الوطن يوماً بيوم. واستعار لأشهر الشتاء مؤلفات
    فولتير وديدرو وقرأها بالفرنسية التي يجيدها تماماً. " فيما بعد تجلى تاثير
    "كانديد" واضحاً فى "الأخوة كارامازوف" وتجلى تأثير ديدرو فى "الأبله" وفي
    "مذكرات من تحت الأرض " .

    حل عام 1869 وجاءتنا معه فرحة، إذ اتضح
    أني حامل من جديد. أبدى دستويفسكي عناية بالغة بصحتي. حتى أنه أخفى علي أحد
    مجلدات رواية الكونت الشاب ليون تولستوي " الحرب والسلام " التي صدرت تواً
    لمجرد أن الكاتب يصف في ذلك المجلد وفاة زوجة الأمير أندريه بولكونسكي
    أثناء الوضع. كان يخشى علي من تأثير هذا الوصف الفني البارع، تعودنا على
    حياة الشظف والعناء، لكن مشكلة أخرى واجهتنا. فقد أدرك دستويفسكي فجأة أنه
    ابتعد عن روسيا كثيراً خاصة العامين الأخيرين وصار الحنين يشده إليها. وشعر
    بحاجة ماسة إلى مادة من الواقع الروسي تمكنه من مواصلة الكتابة. فاقترحت
    عليه أن نقضى الشتاء فى براغ المدينة السلافية الأقرب روحياً إلى الأجواء
    الروسية. ولصعوبة الطريق علي توقفنا فى البندقية لأربعة أيام لم نبارح فيها
    تقريباً ساحة القديس مرقص لشد ما أعجب زوجي بمعمار كنيسته وبسقف قصر
    الأمطار الذي تزينه لوحات أفضل رسامي القرن الخامس عشر.

    وصلنا
    إلى براغ بعد عشرة أيام من التجوال والترحال. وتعذرت علينا الإقامة فيها
    لغلاء المعيشة وارتفاع الإيجار. فاضطررنا إلى مغادرتها بأسف بعد ثلاثة
    أيام. تبددت أمنية زوجي في لقاء العالم السلافي، ولم يبق أمامنا ساعتها سوى
    العودة إلى درسدن من جديد. فنحن نعرف ظروفها، وثمة جالية روسية كبيرة قد
    تسري عنا، هناك ولدت ابنتي الثانية لوبوف وأشرقت السعادة في عائلتنا. -
    فيما بعد غدت لوبوف دوستويفسكي روائية نشرت عدة مؤلفات وهاجرت من روسيا عام
    1913، ولم تعد إليها، أصدرت بالألمانية فى 1920 مذكراتها عن والدها فجاءت
    شخصيته "صورة قلمية " بعيدة عن الواقع في بعض جوانبها، خلافاً لمذكراث أمها
    آنا غريغوريفنا. فالكاتبة كانت قاصرة فى الحادية عشرة عندما توفى أبوها.
    وفي تلك الفترة أنهى فيودور دوستويفسكي روايته "الزوج الدائم" التي وصف
    فيها حياته بضواحى موسكو عام 1866 -

    وانشغل دستويفسكي، شتاء 1870،
    في وضع مخطط رواية جديدة ضخمة أراد أن يسميها "الخاطئ ". وتتكون من خمس قصص
    مطولة مستقلة ومترابطة تتناول بمجملها مسالة الخالق والخطيئة التى اهتم
    بها زوجي طول حياته. ولعل حياة الغربة أيقظت فيه المشاعر المسيحية العميقة
    والأفكار الدينية الصافية وخلصته من التعنت والمكابرة فجعلته أكثر طيبة
    وتسامحاً واستسلاماً، الأمر الذي تجلى بأفضل تعبير فى مؤلفاته. كان يريد
    لأحداث القصة الأولى من "الخاطئ " أن تجري فى الأربعينات، ومادتها متاوفرة
    ونماذج شخوصها حاضرة فى ذهنه، وكان بوسعه أن يشرع في كتابتها وهو فى
    الخارج. إلا أن مادة القصة الثانية تعوزه. أحداثها تجري فى أحد الأديرة
    وبطلها الرئيسى شخصية واقعية وهو القسيس تيخون زادونسكي باسم آخر طبعاً.
    وكان لا بد لنا من العودة إلى روسيا لتوفير المادة لرواية يعلق عليها
    دستويفسكي أهمية بالغة ويريد لها أن تكون خاتمة لنشاطه الأدبي. لكنه لم
    يتمكن من تحقيق ما أراد لأنه انشغل فى موضوع آخر هو رواية " الشياطين "
    التي تناولت الحياة السياسية في روسيا آنذاك. ولم يكن دستويفسكي راضيا عن
    الرواية حتى أنه أتلف خمس عشرة ملزمة من مخطوطتها وأعاد صياغة الجزء الثالث
    بالكامل. ويبدو أن الرواية المتحيزة سياسياً لا تتلاءم وروح نتاجه. ومع
    ذلك حظيت "الشياطين " بإقبال واسع لدى القراء، لكنها من جهة أخرى جلبت
    المتاعب لدستويفكسي وخلقت له أعداء كثيرين فى الوسط الأدبي. و انهالت عليه
    عشرات الصحف والمجلات من اليمين و اليسار بالتقريع و التنديد دون أن تقدم
    تحليلا للرواية واعتبرها النقاد تحاملاً مجحفاً وتجنياً لا مبرر له على
    الحركة الثورية والشباب المعاصر، وعندما أخفق دستويفسكي في كتابة " الخاطئ "
    لم يهمل موضوعها، و أدرج كثيراً من شخوصها فيما بعد ضمن "الأخوة
    كارامازوف" التي غدت بالفعل خاتمة لنشاطه الأدبي.



    مر على
    منفانا الإختياري في الخارج أكثر من أربعة أعوام. وكنت أتصوره سجناً دخلته
    ولن أتمكن من تركه. كانت بارقة الأمل في العودة إلى روسيا تلوح وتختفى بين
    حين وآخر. وعندما تختفي تنتابنا كئابة لا تطاق. فيقول دستويفسكي آنذاك إن
    موهبته الأدبية نضبت و إنها ستذوي وتموت. ولكي أخفف عليه لجأت إلى الوسيلة
    المجربة. اقترحت عليه أن يسافر إلى سبادن ليسلي نفسه بالقمار عسى أن يحالفه
    الحظ. وكنت في الحقيقة أريد أن أضرب عصفورين بحجر. فأنا واثقة أنه سيخسر
    البقية الباقية من نقودنا. لكنه سيفارق همومه من جهة ويعود من جهة أخرى إلى
    الكتابة بهمة تعوض لنا ما خسرناه. وكما توقعت جاءت النتيجة مؤسفة، فخسر
    زوجي كل ما عنده. وتعرض لتأنيب ضمير لازمه أسبوعاً لانه حرم زوجته وابنته
    من لقمة العيش! ولكنه صمم هذه المرة على التخلص من هذا المرض الذي عذبه
    طوال عشر سنين. وعدني بعدم المعاودة إلى القمار مدى الحياة. ولم أصدقه
    بالطبع. فما أكثر ما كرر وعده فيما مضى. لكنه وفى به هذه المرة، و انقطع عن
    اللعب إلى الأبد. ففي رحلاته المتكررة التالية إلى الخارج لم يفكر يوماً
    بالذهاب إلى الكازينوهات. صحيح أنها أغلقت في المانيا بعد رحيلنا، لكنها
    ظلت مفتوحة الأبواب في سكسونيا ومونت كارلو، و المسافة إليهما ليست بعائق
    على أية حال. إلا أن دستويفسكي تخلص، والحمد لله، من هذا العيب الشنيع.

    شددنا
    الرحال إلى روسيا في 5 تموز 1871. جمع زوجي مخطوطاته وطلب مني أن أحرقها.
    مانعت قدر المستطاع، لكنه أقنعني بأن رجال الشرطة على الحدود الروسية
    سيصادرونها في كل الأحوال كما فعلوا أثناء اعتقاله عام 1849. وهكذا أتلفت
    مخطوطات "الأبله " و "الزوج الدائم " و " الشياطين ". وحينما وصلنا الحدود
    تعرضنا لتفتيش دقيق كما كان متوقعاً. لكن كل شئ مر بسلام، فما أعظم فرحتنا
    ونحن نعود إلى الوطن!


    عدنا من ألمانيا إلى بطرسبورغ في نهار صحو
    قائظ. إلا أن دستويفسكي تصور مستقبلنا ضبابياً قاتماً وتوقع لنا مصاعب جمة
    لا بد من تذليلها حتى نجد موطئ قدم على أرض الوطن. استأجرنا غرفتين فى شقة
    مؤقتة قرب منتزه يوسف , وكنت حاملاً في انتظار المولود الثالث. بعد ثمانية
    أيام من وصولنا رزقت بابني فيودور الذي سميته تيمنا باسم أبيه. ثم انتقلنا
    إلى شقة من أربع غرف، تقاطر علينا أقرباؤنا رأساً، و استقبلناهم ببشاشة
    وترحاب. ومن حسن الحظ أن أولاد أخي دستويفسكي وأمهم إميليا صاروا يعيشون في
    بحبوحة ولم يعودوا ينتظروا منه مساعدة إلا في حالات إستثنائية. لكن ابنه
    المتبنى بافل، وكان تزوج قبل شهور، ظل يعول على "والده " متصورا أن
    دستويفسكي ملزم بإعالته حتى الشيخوخة.


    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Dostoevsky4


    وفي
    غيابنا تجرأ على بيع محتويات مكتبة زوجي الغنية. وكان ضياع المكتبة ضربة
    قاسية لدستويفسكي، ومن جهة أخرى هجم علينا "جيش " من الدائنين حالما قرأوا
    في الصحف نبأ عودة الكاتب فيودور دستويفسكي، وهددوه بالسجن إن هو عجز عن
    تسديد الديون المستحقة من زمان. ومن ذلك الحين بدأت "معركتنا " الطاحنة مع
    الدائنين و استمرت تنغص حياتنا يوميا طوال عشر سنين حتى وفاة زوجي فى بداية
    1881.


    ورغم المنغصات كان شتاء 1872 حافلا باللقاءات الهامة.
    استعاد دستويفكسي اتصالاته مع العديد من أصدقائه القدامى، وبالتالى بطائفة
    من علماء عصره كالمستشرق غريغوريف الذى نرى صدى لأفكاره فى رواية "
    الشياطين " و الفيلسوف نيكولاي دانيليفسكى مؤلف كتاب "روسيا وأوروبا " الذي
    ترك أثراً ملحوظاً في أراء دستويفكسي بخصوص " رسالة روسيا " كدولة غربية
    واشتركية في آن معا، وفي ذلك العام رغب بافل تريتياكوف صاحب معرض الصور
    الجاليري الشهير في موسكو، وهو من المعجبين بنتاج دستويفسكي، أن يحصل على
    صورة زيتية له فأوفد إلى بطرسبورغ لهذا الغرض الرسام الروسي المعروف فاسيلي
    بيروف.


    وقبل أن يبدأ هذا الأخير عمله صار يتردد علينا يومياً
    طوال أسبوع ويفاجئ دستويفسكي فى شتى أحواله اللإنسانية ويحاوره ويستفزه
    خصيصاً للخوض في مواضيع شائكة، إلى أن تمكن من " تصيد " أعمق تعبير في
    ملامح زوجي وهو شارد الذهن غارق في تأملاته الفنية.

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Dostoevsky1


    التقط
    بيروف " لحظة الإبداع " أو الذهول التى كنت تلمستها مراراً و أنا أدخل على
    زوجي مكتبه لأمر ما فأجده غائصاً في ذاته يحدق فيها من الداخل، وأخرج دون
    أن أكلمه. وفيما بعد يتضح لي أنه لم يشعر بوجودي و لا يصدق بأنى دخلت عليه
    المكتب فى تلك اللحظة، كان بيروف رجلا ذكياً لطيف المعشر. وكان دستويفسكي
    يرتاح إليه كثيراً حتى أنه كتب عنه فى الصحف مرتين. وقد حضرت جميع وجبات
    رسم الصورة النصفية الشهيرة في نيسان- ايار 1872. ويتميز هذا البورتريه
    بقيمة فنية يعترف بها الجميع ولا تضاهيها من هذه الناحية سوى صورة نصفية
    آخرى بالحجم الطبيعى لدستويفسكي رسمها كرامسكوي في اليوم الثاني لوفاة
    الكاتب.


    إنني أحتفظ بأطيب الذكريات عن ربيع 1872، لكن صيف ذلك
    العام كان أتعس فترة في حياتي. إذ توالت المصاب فيه الواحدة بعد الأخرى.
    كنا استأجرنا منزلاً ريفياً يمتلكه قسيس طيب للغاية في بلدة ستارايا روسا
    الخشبية حيث البيوت كلها من خشب، وحتى أرصفة الشوارع مبلطة بالألواح، و
    فيها حمامات للعلاج بالمياه المعدنية. لكننا اضطررنا أن نترك رضيعي، وهو في
    شهره التاسع، في عهدة القسيس و المربية ونعود حالاً إلى بطرسبورغ لإن
    ابنتي لوبوف تعرضت لحادث وانكسرت يدها، وأجريت لها عملية تجبير فاشلة ثم
    عملية جراحية فى منتهى التعقيد. وفي نفس الفترة توفيت أختي الكبرى في روما
    وانكسرت رجل أمي، بعد إجراء العملية الجراحية لإبنتنا عاد دستويفسكي إلى
    الريف في اليوم الثالث، وبقيت أنا فى العاصمة أسهر على صحتها في المستشفى.
    ولشد ما دهشت حينما عدت إلى البلدة بعد أسبوعين ورأيت أن صغيري نسيني
    تماماً. كان يفر مني، أنا أمه ومرضعته، ويلوذ باذيال المربية العجوز. وهي
    والحق يقال امرأة في منتهى الطيبة و الأريحية والمرح " تحتسي قدحا من
    الفودكا على الغداء كل يوم بمناسبة وبغير مناسبة " , ولا يعكر صفو حياتها
    سوى قلقها على ابنها الذى لا يراسلها. كان دستويفكسي يعزها ويعتز بها لحبها
    الخالص لصغيرنا، وقد اتخذ منها في " الأخوة كارامازوف " نموذجاً للعجوز
    التي تتقرب للكنيسة وتتصدق على المساكين ترحماً على روح ابنها وهي تعلم حق
    العلم أنه على قيد الحياة. ولم تكن تلك الصورة من ابتداعات دستويفسكي. فإن
    مربيتنا كانت تتصرف هكذا بالفعل، حتى أن زوجي نصحها بأن تكف عن هذه العادة
    وتنبأ بوصول رسالة من ابنها في القريب العاجل. وهذا ما حصل فى الواقع،
    وبسبب برودة ذلك الصيف أصبت بمرض تسبب في ظهور دمل فى الحنجرة حبس أنفاسي
    وأشرفت على الموت. لكن الله ستر وزال الخطر. أما آثار كل تلك الاحداث فقد
    حفرت عميقاً فى نفس دستويفكسي المرهف الأحاسيس، المتيم بحب طفليه و أمهما.


    أتعبت
    رواية "الشياطين " دستويفكسي كثيراً طوال ثلاث سنين حتى رأى بعد الفراغ
    منها أن يؤجل البدء برواية جديدة حينا من الوقت. أراد أن يصدر مجلة شهرية
    فريدة من حيث الشكل والمضمون بعنوان " يوميات كاتب " يعد مادتها لوحده من
    ألفها الى يائها، لكن الصعوبات المالية جعلته يؤجل هذا المشروع أيضاً. و
    عرض عليه الأمير ميشيرسكي أن يترأس تحرير مجلته الأسبوعية المحافظة "
    المواطن " فقبل العرض على مضض ولفترة محدودة. لكنه جنى على نفسه من وراء
    ذلك. فقد انتقل إليه، بصفته رئيساً للتحرير، العداء الذي يضمره لصاحب
    المجلة خصومه الفكريون. ومما يثير الإستغراب أن الكثيرين ظلوا، حتى بعد
    وفاة دستويفسكي، يلومونه على مساهمته في تحرير "المواطن". - كتب صديقه
    فسيفولود، الأخ الأكبر للفيلسوف الروسي الشهير فلاديمير سولوفيوف، يقول
    لاحقا: تمادى أعداء مؤلف " الجريمة والعقاب " في التهجم عليه والسخرية منه
    وأطلقوا عليه أبشع النعوت كالخائن و المرتد و المعتوه والمهووس. وكانوا
    يدعون الناس لمشاهدة صورة دستويفسكي بريشة الرسام بيروف حتى يتيقنوا أنه
    مجنون حري بدار المجاذيب!- .

    كانت بداية عام 1873 نقطة انعطاف
    بالنسبة إلينا، حيث أصدرنا " الشياطين " معتمدين على أنفسنا فى طبعة مستقلة
    غدت باكورة نشاطنا المشترك أنا ودستويفسكي فى الطباعة والنشر. وبعد نجاح
    هذه الخطو ة أصدرنا " الأبله " ورأينا أن نعيد طبع " مذكرات من بيت الأموات
    " لنفاد طبعتها الأولى من سنين، كنا قبل ذلك نأمل في تحسين أوضاعنا
    المادية ببيع حقوق نشر " الأبله " ثم " الشياطين " في طبعة مستقلة. كل
    مؤلفات دستويفسكي، ما عدا المغامر، نشرت بادئ ذي بدء في المجلات الفكرية
    الضخمة. لكننا واجهنا صعوبة، ونحن في الخارج، في بيع حقوق النشر. ولم يكن
    الأمر أسهل حتى حين عدنا الى روسيا واتصلنا بالناشرين مباشرة. فقد عرضوا
    علينا مبالغ زهيدة للغاية. دفع لنا أحد الناشرين مائة وخمسين روبل مقابل
    إصدار " الزوج الدائم " بألفي نسخه. وعرض علينا ناشر آخر خمسمائه روبل فقط
    يدفع على أقساط مقابل " الشياطين ". إلا أن فيودور دستويفكسي كان منذ شبابه
    يحلم بطبع مؤلفاته بنفسه. ومن جهتي رحبت بالفكرة وتحمست لها ولم أكن أدري
    أني سأكرس لها، بعد وفاة زوجي أيضا، ثمانية وثلاثين عاماً من حياتي. وكان
    دستويفسكي أهداني حقوق طبع مؤلفاته من سنة 1873.

    في تلك الفترة ما
    كان أحد من الكتاب الروس تجرأ على إصدار مؤلفاته بنفسه. فكنا رواداً فى هذه
    المجازفة. كانت الحسابات مشجعة تفيد أن إصدار مجلدات " الشياطين " الثلاثة
    بـ 3500 نسخة يكلف أربعة آلاف روبل على وجه التقريب، فى حين يمكن أن تباع
    الرواية عموما بـ 12 ألف روبل يذهب ثلثها في أحسن الأحوال للموزعين.
    فاقترضنا مبلغاً لستة شهور. ونشرنا إعلاناً عن قرب صدور الكتاب. وما كان
    أشد فرحتنا عندما تقاطر على دارنا رسل المكتبات التجارية ليشتروا عشرات من
    النسخ نقداً بتنزيلات تتراوح بين 20 و 30 في المائة من سعر الغلاف، على أية
    حال، بدأ نشاطنا الطباعي موفقاً تماماً، فبيعت نسخ الكتاب قبل أن ينتهي
    العام وتجاوز صافي عائداته أربعة آلاف روبل. وكان ذلك مبعثا لإرتياحي
    بخاصة. أما دستويفسكي فقد سره كثيرا إقبال الجمهور على الرواية. فالقراء هم
    سنده الوحيد فى ميدان الأدب. ولم يبذل النقاد - ما عدا بيلينسكي
    ودوبرولوبوف- آنذاك جهدا للكشف عن موهبته. تجاهله بعضهم، فيما أضمر له
    البعض الاخر العداء، بل جاهروه به. وعندما أراجع كتاباتهم اليوم، بعد خمسة
    وثلاثين عاما من وفاة دستويفسكي، تدهشنى بسطحيتها وحقدها الأعمى!


    فى
    نيسان 1874 ترك دستويفسكي مجلة "المواطن" بعد أن عانى منها الأمرين، حتى
    أنه غرم مالياً بحكم المحكمة وأودع السجن يومين عقاباً على إحدى مقالاته
    فيها. وعاد إلى النتاج الأدبي الصرف بتشوق كبير، حيث شرع بكتابة " المراهق
    "، فى ذلك الشهر زارنا على غير عادته الشاعر الكبير نيكولاي نكراسوف {7}
    ، صديق الطفولة وعدو" الكهولة. أثار مجيئه فضولي لدرجة جعلتني أقف وراء
    الباب أتنصت لما يدور بينه وبين زوجي. كنت مطلعة على الصراع الفكري بين
    مجلة نكراسوف " المعاصر " ومجلتي الأخوين دستويفسكي " الوقت " و" العصر "
    في الستينات. ثم أن مجلة نكراسوف الأخرى " رسالة الوطن " لم تكن تستنكف عن
    مهاجمة دستويفسكي. وما كان أعظم فرحتي عندما سمعت نكراسوف يدعو زوجي
    للتعاون ويعرض عليه نشر " المراهق " في مجلته بأجر مغر, 250 روبلا للملزمة
    وليس 150 كما فى مجلة " البشير ".

    لعل نكراسوف تصور، عندما رأى
    أوضاعنا المزرية، أن دستويفكسي سيطير فرحاً، يوافق على اقتراحه. إلا أن
    زوجي شكره وقال: لا يليق أن أقبل هذا العرض دون علم " البشير ". فلي معها
    علاقات طيبة، وقد تحتاج إلى نتاجي. ثم ارتحل دستويفسكي إلى موسكو ليناقش
    هذا الموضوع شخصياً مع رئيس تحرير " البشير ". فوافق هذا الأخير على السعر
    الجديد، لكنه اعتذر عن عدم تقديم السلفة، فالمجلة اشترت مؤخرا حقوق نشر
    رواية ليون تولستوي " آنا كارينينا " على مدار عام 1879 ولم يبق لديها فائض
    من مال. وبهذه الصورة حلت المسألة لصالح نكراسوف، سر زوجي كثيرا لعودة
    العلاقات مع صديق طفولته إلى سابق عهدها. إلا أن للمسألة جانباً سلبياً
    أيضاً. فلدستويفسكي أعداء كثيرون بين الأدباء العاملين في مجلة نكراسوف ذات
    الإتجاه الفكري المخالف لأرائه، وقد يضطرونه إلى تغيير فكرة الرواية بحيث
    تلائم اتجاههم. وما كان بوسعه أن يتنازل عن مبادئه قيد أنملة. وكان من
    المستبعد أن تنشر " الرسالة " رواية تتضمن آراء تتعارض وآرائها. وهذا ما
    أثار قلقنا. فإن دستويفسكي والحال هذه قد يسحب " المراهق " من المجلة، في
    حين تبخر المبلغ الكبير الذي استلمناه مقابلها. سددنا قسماً من الديون
    المستحقة، وسافر زوجي بالتالي إلى ألمانيا للعلاج من النزلة الصدرية في
    حزيران 1874. وفي طريق العودة بعد شهرين عرج على جنيف خصيصاً ليزور قبر
    ابنتنا صوفيا، وجلب لي غصناً من السروة التي غرسناها عند القبر من ست سنين.


    بسبب
    الضائقة المالية المزمنة قررنا أن نقضي الشتاء أيضاً في الريف. فالأطعمة
    والإيجار أرخص مما في العاصمة بمرات. عشنا لأول مرة حياة موزونة هادئة مكنت
    زوجي من مواصلة كتابة روايته الجديدة، حتى أننا لم نستدع الطبيب له كما
    كنا نفعل كل شتاء في بطرسبورغ. كان دستويفسكي يداعب طفليه ويرقص معهما،
    ومعي أحيانا، على أنغام الكادريل والفالس والمازوركا البولونية وهو في أطيب
    مزاج. ولذا تدهشني ادعاءات البعض من أنه سوداوي منقبض النفس دوماً. وقبيل
    المنام يبارك الصغيرين ويرتل معهما "يا أبانا" وسائر الإبتهالات الدينية كل
    ليلة. ولم أرى في حياتي رجل أكثر منه مهارة في ولوج عالم الأطفال وتشويقهم
    بحكاياته المثيرة حتى ليغدو واحداً منهم، كان يعمل كالعادة حتى الثالثة أو
    الرابعة بعد منتصف الليل ويملي علي ساعة أو ساعتين في النهار.

    عجزت عن الكتابة ذات مرة في موضع من الفصل التاسع من "المراهق" - مشهد انتحار الفتاة -. فسألني متحيرا:

    - ماذا بك يا عزيزتي ؟ أنت شاحبة جداً، هل تشعرين بوعكة ؟
    - كلا. وصفك أرعبني.
    - يا إلهي، هل يعقل أن له تأثيرا بهذه الشدة ؟ أعذريني، آسف جداً.

    كنت
    بالنسبة اليه محراراً أو مكشافاً يعكس مدى نجاحه في التأليف. فأنا قارئته
    الأولى، وهو يعتز برأيي ويؤكد أنه تيقن مراراً من صحة انطباعاتي بعد اطلاعه
    على آراء القراء والنقاد.

    وترك الفصل الآنف الذكر انطباعا عميقاً
    في نفس نيكولاي نكراسوف، فهو يعتبر مشهد الإنتحار من " آيات الإعجاز الفني "
    ويتلمس في الرواية التي أعجبته للغاية "طراوة افتقدناها من زمان حتى عند
    ليون تولستوي في كتاباته الأخيرة "على حد تعبيره. إلا أن لدستويفسكي رأيا
    آخر في تلك " الكتابات ". فقد قال عن رواية " آنا كارينينا " إنها " من
    عيون الأدب الهامة، وهي أفضل تزكية لنا أمام أوروبا، بل هي تمكننا أن نبز
    أوروبا". وقال عن ليون تولستوي " إنه قنان بلغ ذروة الإبداع وأن أمثاله هم
    معلموا المجتمع، معلمونا، ونحن مجرد تلاميذ لهم "، أتذكر أني، في حينه،
    قهقهت بأعلى صوتي عندما تلا علي دستويفسكي حديث الجنرال في " الأبله ". و
    حينما أملى قرار الإتهام على لسان المدعي العام في "الأخوة كارامازوف" قلت
    له مازحة:

    - يا ليتك كنت مدعياً عاماً ! بخطابك هذا تنفي حتى الأبرياء إلى سيبيريا !
    - يعني أن خطاب الإتهام جاء موفقا ؟
    - جداً.

    و عندما أملى علي كلمة محامي الدفاع سألني رأيي فيها فأجبته هذه المرة أيضاً:

    -
    ليتك كنت محامياً، فبوسعك أن تبيض صفحة أبشع المجرمين ! وفي بعض الأحيان
    كنت أكتب بيد و أكفكف دموعي بالأخرى، فيتوقف دستويفسكي عن الإملاء ويقترب
    منى صامتاً ويقبل رأسي بحنان.


    نصح الأطباء دستويفسكي أن يكون
    العلاج في الخارج بعد أن كانت له نتيجة محمودة في العام الفائت. فطلبنا له
    من جديد جواز سفر في نيسان 1879. ولم يكن الأمر، ونحن نقيم في أرياف
    فوفغورود، بنفس السهولة التي كنا نحصل بها على الجواز في بطوسبورغ. واجهت
    مأمور الشرطة في الضاحية لأستفسر عن الإجراءات المطلوبة فاستقبلني بترحاب.
    لكنه أخرج من الجرار دفتراً سميكاً وقدمه إلي. فتحته فانعقد لساني دهشة:
    "ملف الملازم الثاني المتقاعد فيودور دستويفسكي الخاضع للرقابة السرية و
    المقيم حالياً في بلدة كذا، وعنوانه كذا... "قرأت عدة صفحات وقهقهت:

    - يبدو أنك تعرف كل شئ عنا !
    - نعم. أعرف كل ما يجري في عائلتكم، ويسرني أن زوجك حسن السلوك ولم يسبب لي متاعب حتى الآن!
    هل أبلغه هذا الإطراء ؟ - سألته ساخرة،
    فأجاب بسذاجة:
    - نعم، وآمل ألا يخلق لي مشاكل في المستقبل.

    عندما
    أبلغت دستويفسكي بقصة الرقابة ضحك, واكتأب كثيراً، فقد آلمه أنهم يراقبونه
    حتى الآن رغم ولائه اللامتناهي للقيصر والوطن. وأدركنا حينها سبب تأخير
    مراسلاتنا. ولم يكن دستويفسكي طلب رسمياً رفع الرقابة عنه، خصوصاً بعد أن
    أكد له أشخاص مطلعون أنه لم يعد خاضعاً للرقابة السرية طالما سمحت له
    السلطات بإصدار محلته "يوميات كاتب". والحقيقة أن الرقابة لم ترفع إلا عام
    1880 بأمر من موظف كبير التمسه دستويفسكي. - تفيد مصادر آخرى أن الرقابة
    التي لاحقت الكاتب أكثر من ربع قرن رفعت عنه في صيف 1875 لكنه لم يعرف بذلك
    إلا بعد خمس سنين عندما قدم الطلب الذي تشير إليه زوجته آنا دستويفسكي في
    مذكراتها- . ومهما يكن من أمر فقد عاش دستويفسكي منذ عام 1859 بهوية إقامة
    وقتية في بطرسبورغ شأن عشرين ألف مشرد من سكانها ممن لا يحملون هوية دائمة.
    ولم يكن الرجل يمتلك منزلاً خاصاً به. وليس له من الأموال غير المنقولة
    سوى قطعة أرض مستنقعة في محافظة ريازان خلفتها خالته لعدد كبير من الورثة
    ولم يستلم حصته من تلك التركة إلا قبيل وفاته بعامين. وبعد أن رحل عنا إلى
    جوار ربه تمكنت أن أشتري المنزل الريفي الذي كنا أمضينا فيه عدة سنين على
    سبيل الإيجار.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    بنت النيل

     نائب المدير 
     نائب المدير 
    بنت النيل


    الهوايات : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Readin10
    المهنه : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Studen10
    المزاج : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 310
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 3dflag23
    الاسد عدد المساهمات : 210
    نقاط : 384
    تاريخ التسجيل : 18/07/2011
    العمر : 27

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Empty
    مُساهمةموضوع: رد: مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي ..   مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالثلاثاء سبتمبر 06, 2011 2:12 am

    مذكرات زوجة الكاتب
    آنا غريغور ريفنا دستويفسكي


    ترجمة : خيري الضامن

    3/3

    تركنا
    الريف عائدين الى العاصمة في الخريف بعد أن رزقت بابني الثاني ألكسي في 10
    آب 1875. وتحسنت أوضاعنا عموماً خلال عام 1876. لم تحدث لزوجي نوبات صرع
    من زمان، والأطفال فى صحة جيدة، وديوننا أخذت تتضاءل شيئا فشيئا،، مجلتنا
    الشهرية "يوميات كاتب" تحقق نجاحاً. وسع دستويفسكي اتصالاته وصار يتردد على
    محافل علية المجتمع فيحظى بالترحاب وبتقدير رفيع لطيبته و أريحيته فضلا عن
    موهبته الأدبية. ومع ذلك كان بعض الأدباء يسيئون إليه ربما بدافع الحسد،
    واصلنا إصدار المجلة في عام 1877، ومع ازدياد نجاحها المعنوي و المادي
    ازدادت الصعوبات المرتبطة بالتوزيع و الإشتراكات والمكاتبات وما إلى ذلك.
    كما اشتد بدستويفسكي الحنين إلى الأدب الصرف. فقرر في نهاية ذلك العام أن
    يوقف المجلة لسنتين أو ثلاث ويعكف على كتابة رواية جديدة. كانت في ذهنه
    آنذاك أربعة مشاريع لا تكفي عشر سنوات لإنجازها. كان يريد أن يؤلف رواية عن
    كانديد الروسي ورواية عن يسوع الناصري ومرثية الأربعين، بالإضافة إلى
    الشروع بكتابة مذكراته. ولم يتحقق أي من تلك المشاريع.


    ذات
    مرة، في خريف 1877، عرج دستويفسكي مع صديق له على إحدى عرافات العاصمة
    فتنبأت له بشهرة عظيمة ومصيبة أليمة. وبالفعل جاءته أثناء مهرجان 1880
    الأدبي في موسكو شهرة تفوق التصور. وفي 16 ايار 1878 توفى ابننا الأصغر
    ألكسي. وكان ألم زوجي، وألمي، يفوق التصور أيضاً. كان يحب صغيره حباً
    متميزاً، مأساوياً رقيقاً، وكان هاجساً يوحي إليه بقرب الفجيعة. وكان يحز
    فى نفسه بخاصة أن الطفل توفي في نوبة من الصرع الذي ورثه عنه. ولم يخبرنى
    دستويفسكي بالفأل الذي قرأته له العرافة إلا بعد وفاة إبني. تبدل حالي و
    اختفت بشاشتي المعهودة واستولت علي لامبالاة مطلقة. عشت على ذكريات السنوات
    الثلاث الأخيرة، ذكريات صغيري الفقيد، وتحمل دستويفسكي المصيبة بصمت جعلنى
    أخشى عليه هو أيضاً. وكان يحاول أن يخفف علي أحزاني. وفيما بعد عمد إلى
    وصف الكثير من أفكاري وشكوكي وآلامي، بل أورد حتى كلماتي بالحرف الواحد، فى
    "الأخوة كارامازوف "، في فصل "المؤمنات"، حيث تعرض أم مفجوعة بوليدها كل
    ما تعانيه من الآم على شيخ الدين زوسيما.



    رأينا
    تحشداً حول باعة الصحف في شارع نيفسكي الرئيسي. توقفت العربة فشققت طريقي
    بين الجموع، واشتريت صحيفة فيها ما كان الجميع ينتظرونه من زمان: " بلاغ 12
    نيسان 1877 عن دخول القوات الروسية الأراضي التركية ". كان ذلك هو الإعلان
    الرسمي عن بدء الحرب الروسية العثمانية. قرأ زوجي البلاغ وأمر الحوذي أن
    يمضي بنا حالا إلى كاتدرائية قازان. كان فيها جمع من المصلين. ذاب
    دستويفكسي بينهم. وكنت أعرف أنه في المناسبات المشهودة يفضل الصلاة فى ركن
    منزو هادئ دون أن يراه أحد من معارفه. فتركته وشأنه. وبعد نصف ساعة مضيت
    إليه فوجدته يبتهل في تأثر وذهول حتى أنه لم يعرفني للوهلة الأولى، وفيما
    بعد ظل يتابع الأحداث ونتائجها الخطيرة بالنسبة إلى الوطن الحبيب. واحتفظ
    بالبلاغ المذكور مع الوثائق التي يعتز بها، فهو يعتبر المشاركة فى الحرب
    الروسية العثمانية 1877-1878 فائحة لأداء "الرسالة التاريخية للأمة الروسية
    في توحيد البشرية، و الشعوب السلافية في المقام الأول، على أساس المحبة
    والأخوة المسيحية " على حد تعبيره.




    في
    نهاية 1877 كان دستويفسكي في أسوأ حال، إذ أن نيكولاي نكراسوف أحد أوائل
    الذين اعترفوا بموهبته وساعدوه ليشق طريقه فى الوسط الفكري آنذاك قد شارف
    الموت. كان زاره مراراً أثناء مرضه. وعندما بلغه نبأ وفاته في 27 كانون
    الأول تأثر من الصميم وأمضى تلك الليلة يتلو بصوت مسموع أفضل قصائد الشاعر
    الراحل. فخشيت عليه من الصرع ولازمت مكتبه حتى الصباح، وبعد ثلاثة أيام
    جئنا للمشاركة فى تشييع جثمان نكراسوف. كان في مقبرة دير " نوفوديفيتشيه"
    حشد غفير أغلبه من الشبان. وقبل أن يهال التراب على التابوت فى القبر
    المكشوف ألقى دستويفسكي بصوت متهدج كلمة مقتضبة قوم فيها موهبة الفقيد
    مؤكدا فداحة الخسارة التي تكبدها الأدب الروسي. ثم نشر في "يوميات كاتب"
    مقالة مطولة عنه اعتبرها معظم الأدباء أفضل دفاع عن نكراسوف الذي اختلفت
    فيه الاراء وانقسم حوله النقاد بين مستحسن ومستهجن. و أعاد له دستويفسكي
    مكانته المستحقة في روضة الشعر، فهو في رأيه ثالث شعراء روسيا المجددين بعد
    بوشكين وليرمونتوف{8} .



    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Tolstoy

    فى
    مطلع 1878 ألقى الفيلسوف اللامع فلاديمير سولوفيوف، وكان في مقتبل العمر،
    سلسلة محاضرات عامة في الفلسفة حظيت باقبال منقطع النظير. وكنت حضرتها مع
    دستويفسكي. في أثناء إحدى المحاضرات لاحظنا أن صديقنا نيكولاي ستراخوف
    قابلنا بجفاف خلال الفرصة واختفى بلمح البصر على غير عادته. وعندما ذكرته
    بموعد الأحد، فهو يتناول طعام الغداء عندنا في الآحاد، التفت إلينا وأجاب:
    طبعاً، أنا ضيفكم الدائم. وعلى الغداء بعد أيام سألناه عن تصرفه الغريب ذاك
    وعن سبب زعله علينا فاجاب ضاحكاً:


    -
    أعوذ بالله! كيف أزعل عليكما؟ كل ما في الأمر أني جئت حينها برفقة الكونت
    ليون تولستوي وقد اشترط علي ألا أعرفه على أحد من الحضور، مما جعلنى أتحاشى
    الجميع.
    - عجيب! كان معك تولستوي؟! - هتف دستويفسكي مبهوتا - مع الأسف
    أني لم أقابله. طبيعي أني ما كنت سأفرض عليه تعارفا لايرغب فيه. ولكن لمِ
    لم تهمس فى أذني أنك معه؟ كان بودي أن ألقي ولو نظرة خاطفة عليه.
    - أنت تعرفه من صوره- واصل ستراخوف ضحكته.
    -
    ما قيمة الصور؟ وهل تغني عن المقابلة الشخصية؟ لن أغفر لك هذه الفعلة يا
    نيكولاي. وظل دستويفسكي آسفاً على تلك الفرصة المضيعة. أما أنا فقد التقيت
    الكونت ليون تولستوي مرة واحدة في موسكو عام 1902 وكان لي معه حديث. قبلها
    تعرفت على عقيلته الكونتيسة صوفيا أندرييفنا والتقيتها مراراً منذ عام
    1885. فهى تزورني عندما تصل إلى بطرسبورغ ونتشاور في أمور الطباعة والنشر
    خصوصاً. وأعرج عليها حتما كلما زرت موسكو. ولم يصادف أن وجدت الكاتب الكبير
    فى البيت، كونه يقيم أساساً فى ضيعته بضاحية " ياسنايا بوليانا ". وحالفني
    الحظ بعد سنتين، فوجدته ذات مرة. كان متوعكاً بعد نوبة التهاب الكبد.
    استقبلني، مع ذلك، أحر استقبال. ودار الحديث بالطبع عن المرحوم زوجي. وقال
    تولستوي أنه سيظل يشعر بالأسف الشديد لأنه لم يتعرف فى حينه على دستويفسكي.
    وعندما ذكرته بمحاضرة سولوفيوف استغرب وأناح باللائمة على مرافقه الذي لم
    يخبره. وأضاف: كان دستويفسكي عزيزاً علي. ولعله كان الكاتب الوحيد الذي
    يمكنني أن أساله الكثير ويمكنه أن يرد بالكثير.



    بعد
    وفاة ابننا الأصغر ألكسي كاد دستويفكسي يقضي غماً وكمداً. فنصحته بالسفر
    إلى "خلوة النساك" بمقاطعة كالوغا في أواسط روسيا، ذلك الدير المنعزل الذي
    غدا محجة للمفكرين والأدباء وسواهم من ذوي المشاعر المرهفة والنفوس القلقة
    التي تنشد السلوى والهدوء والطمأنينة في رحاب الإيمان، وتنهل من منابع
    الحكمة على يد شيخ الدين. وكان بين المشاهير الذين زاروا الدير القائم منذ
    القرن الرابع عشر نقولاي غوغول وليون تولستوي ونقولاي ليسكون وايفان
    تورجينيف، كان دستويفسكي متردداً في الرحيل إلى الدير لوحده رغم رغبته
    القديمة في رؤيته. وتمكنت أن أقنع فلاديمير سولوفيوف {9}
    الذي كان ينوي السفر إلى هناك في ذلك الصيف أن يصطحب زوجي. ومع أنني أعتبر
    هذا الرجل الهائم في أجواء الفلسفة واحداً "من أهل الله" إلا أنني كنت
    متأكدة أنه سيسهر على دستويفسكي فيما لو أصابته نوبة صرع في الطريق الطويل.


    في
    أواخر حزيران 1878 ارتحلا. عاد دستويفسكي من "خلوة النساك" أكثر هدوءاً
    واطمئناناً بعد أن التقى شيخ الدين مع الرعية مرة، ثم اختلى به مرتين في
    حديث صادق كان له وقع عميق في نفسه. وفيما بعد أورد دستويفسكي مواضع من هذا
    الحديث في الجزء السابع من "الأخوة كارامازوف"، وأحاد في وصف شخصية شيخ
    الدين ومعتكفه وصومعته كما رآه بأم العين، عدنا من الريف إلى بطرسبورغ في
    الخريف كالعادة، واستأجرنا شقة جديدة بدلا من الشقة التي يذكرنا كل شئ فيها
    بفجيعتنا بابننا.وأمضى دستويفسكي في الشقة الجديدة بقية حياته حتى توفي
    بعد عامين، لم يفارقنا الحزن شتاء، لكن الأمور سارت على منوالها حسب
    الظاهر. واصل دستويفسكي العمل في "الأخوة كارامازوف" حتى تمكن من إنجاز
    الوجبة الأولى بحوالي مائتي صفحة نشرت في مجلة "البشير الروسي" عدد كانون
    الثاني 1879.



    مرت
    الشهور الأولى من عام 1879 بهدوء. واستمر دستويفسكي بكتابة روايته، وشارك
    في أمسيات أدبية خيرية عديدة، فكان يلقي فصولا من مؤلفاته، وخصوصاً الرواية
    الجديدة "الأخوة كارامازوف"، ويستقبله الجمهور بمنتهى الحفاوة والتكريم.
    رافقته في كل تلك الأمسيات الممتعة وساعدته على قدر المستطاع حتى قال لي
    مرة "أنت حامل سلاحي". وبالفعل كنت أحمل الكتاب الذي يتلو مقتطفات منه وآخذ
    معى أقراص السعال ومنديلاً إضافياً وبطانية نلف بها كتفيه وعنقه كيلا يصاب
    بالبرد في الطريق، وما إلى ذلك من الحاجيات التي جعلته محقا في نعته ذاك.
    لكن المؤسف أن الغيرة عاودت دستويفسكي مراراً في تلك الأمسيات فعكرت الجو
    علي وعليه.


    وفي
    الربيع انتقلنا إلى الريف كالعادة. وكان البروفيسور كوشلاكوف أصر على زوجي
    أن يسافر إلى ألمانيا للعلاج بالحمامات بعد انقطاع دام ثلاث سنوات. وعندما
    حل الصيف ارتحل دستويفسكي إلى مدينة ايمس وتوجه في الحال إلى طبيب هناك.
    فوعده هذا الأخير بأن "مياه كرينهين المعدنية ستعيده إلى الحياة". وكتب لي
    زوجي يقول: "فحصني الدكتور أورت فوجد أن جزءاً من الرئة غير موضعه وكذلك
    القلب تزحزح من مكانه المعتاد وهو الآن في موضع أبعد. كل ذلك بسبب الإنتفاخ
    الرئوي. إلا أن القلب سليم تماماً، ولا يشكل تبدل الموضع خطراً يذكر كما
    يقول الطبيب. وهو ملزم بالطبع أن يهدي من روع المريض. ولكن إذا كان
    الإنتفاخ وهو في طوره الأول قد فعل هذا كله فماذا ينتظر منه فيما بعد ؟ على
    كل حال، أملي كبير في المياه المعدنية".


    أفزعني
    رأي الطبيب الألماني. فقد كنت في السنوات الأخيرة أرى زوجي في أحسن حال،
    ولم أتوقع أن المرض يسري في بدنه على هذا النحو. علقت آمالي أنا أيضاً على
    مياه كرينهين، فقد اسعفته كثيراً فيما مضى. وكنت أتمنى أن يجد دستويفسكي في
    ايمس من يبدد وحدته، لكنه مع الأسف لم يجد أحداً من معارفنا طوال الأسابيع
    الخمسة التي أمضاها هناك. وكتب إلي أنه يعاني من الوحدة القاتلة والصمت:
    "تلك ليست مجرد وحدة، إنها صمت أخرس، حتى أني أكلم نفسي أحياناً
    كالمجنون... فقدت قابلية النطق، ومنذ أربعة أسابيع لم أسمع صوتي. وأفكر في
    الموت طول الوقت".




    بدأ
    عام 1880 بافتتاح "مؤسسة دستويفسكي" للتوزيع بالمراسلة. كانت أحوالنا
    المالية متردية رغم نجاحنا في تسديد الديون التي لاحقت زوجي منذ الستينات.
    وما دفعنا لفتح المؤسسة التجارية لتسويق المطبوعات هو تدهور صحة دستويفسكي
    واستفحال الانتفاخ الرئوي وخوفنا أن يعجز قريباً عن الكتابة، ففكرنا في
    توفير بعض المال لليوم الأسود، تحمست للمشروع كثيراً، لكني كنت واثقة أن
    النجاح لن يكتب له إلا بتسجيل المؤسسة باسم فيودور دستويفسكي" مما حوله
    رسمياً الى "تاجر" ووفر لخصومه حجة إضافية للنيل منه على صفحات الجرائد
    متصورين بسذاجة أنه يشارك فعلا في نشاط هذه المؤسسة المتواضعة التي أغلقت
    أبوابها بعد شهرين من وفاته.


    وعلى
    العموم لم يكن لدينا في بداية هذا العام ما يبرر الشكوى. فإن صحة
    دستويفسكي في أعقاب علاجات الصيف الفائت تحسنت على ما يبدو, كما تضاءلت
    نوبات الصرع. وطفلانا في صحة موفورة. و "الأخوة كارامازوف" تحقق نجاحاً لا
    ريب فيه. ومؤسستنا التجارية بدأت خطوات موفقة ومطبوعاتنا تحظي باقبال واسع.
    كل ذلك جعل دستويفسكي في أحسن حال. ورغم انشغاله في كتابة المتبقي من
    روايته كان يزور أصدقاءه ويتردد على الصالونات الأدبية ويلتقي مشاهير عصره
    من العلماء ورجالات المجتمع وسيداته. وقد حضر مناقشة رسالة الدكتوراه التي
    تقدم بها الفيلسوف فلاديمير سولوفيوف الى جامعة سان بطرسبورغ في "نقد
    المبادئ التجريدية" وشارك في أمسيات أدبية كثيرة. وكان كما أسلفت يستأسر
    المستمعين ببراعته وتعبيريته، رغم صوته الرفيع الواهن، وببساطته وعدم تقيده
    بأساليب فن الخطابة، حتى أنه عندما تلا مقطعاً من "الجريمة والعقاب" - حلم
    راسكولنيكوف حول الحصان القتيل- رأيت الحاضرين مخطوفين وقد ارتسم الرعب
    على وجوههم، والبعض يبكون، ولم أتمكن أنا نفسي أن أحبس دموعي {10}
    . ولم يكن دستويفسكي يقتصر على تلاوة مؤلفاته، فهو يقرأ في تلك الأمسيات
    والندوات مقتطفات من غوغول وبوشكين وغيرهما. وأذكر أن الجدران كادت تهتز من
    التصفيق بعد أن ألقى دوستويفسكي قصيدة "النبي" - .





    في 26 أيار 1880 كان سيصار إلى إحياء أضخم مهرجان تشهده روسيا لتكريم ذكرى أمير شعرائها ألكسندر بوشكين {11}
    . وتلقى دستويفسكي، شأن سائر كبار الأدباء والمفكرين، دعوة للمشاركة بكلمة
    في الإحتفالات التي ستقام في موسكو، عكف دستويفسكي على إعداد كلمته. واهتم
    كثيراً بالأقاويل المتعارضة التي شاعت في العاصمة بطرسبورغ بصدد مضامين
    الخطب التي سيلقيها في المهرجان ممثلو جناحي الفكر الروسي: القوميون
    المتقيدون بالنزعة السلافية والعصريون الموالون للغرب. وكان دستويفسكي، وهو
    من الفريق الأول، يريد أن يضمن خطابه عن بوشكين كل ما أثقل صدره خلال هذه
    السنين من أفكار بخصوص رسالة الأمة الروسية الأرثوذكسية المؤمنة، كان في
    نيتنا أن نرتحل إلى موسكو مع طفلينا. فإن أبقيناهما مع المربية سيشتد قلقي
    عليهما، وإن تركت زوجي يسافر لوحده سيشتد قلقي عليه. إلا أن القرار جاء بعد
    أن أفزعتنا كلفة السفر والاقامة طوال فترة المهرجان. فرحل دوستويفسكي
    لوحده.


    تأجل
    افتتاح المهرجان بسبب وفاة الإمبراطورة الأم. وبدلا من أسبوع أمضى
    دستويفسكي في موسكو 22 يوما كنت خلالها أتقلب على الجمر مع أن رسائله
    تتوارد علي كل يوم. وسبب مخاوفي وعذابي أن الطبيب الروسي الذي فحص
    دستويفسكي قبلها أفضى إلي سراً أن المرض اللعين استفحل في الأونة الأخيرة
    وأن الإنتفاخ الرئوي في حالته الراهنة يشكل خطراً على حياة زوجي. فالشرايين
    في الرئتين غدت رقيقة هشة ويمكن أن تتمزق وتنفجر لأية حركة مفاجئة أو أية
    انفعالاته شديدة، محزنة كانت أم سارة لا فرق. ثم أني كنت أخشى عليه من نوبة
    الصرع المزدوجة التي لم تداهمه من فترة، ويتوقع أن تصيبه الآن، وإذا حدثت
    له في الفندق سيقوم، كعادته بعدها، قبل أن تزول الغشاوة عنه ويأخذ في البحث
    عني هناك دون أن يدرك بأني بعيدة، وسيعتبرونه مجنوناً ويزجون به في دار
    المجاذيب. إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث والحمد لله.


    في
    6 حزيران 1880 أزيح الستار عن تمثال بوشكين في قلب روسيا. وألقى دستويفسكي
    كلمته الشهيرة في اختتام المهرجان، في يومه الرابع. وعاد إلى الفندق
    متعباً وفرحاً لإستقبال الجمهور الموسكوبي الممتن الذي كرمه بإكليل ضخم من
    الغار، أخذ قسطا من الراحة. وفي ساعة متأخرة من الليل مضى إلى تمثال بوشكين
    مجدداً. توقفت عربته في الساحة الخالية من السابلة في أخر دليل. نزل منها
    يحمل إكليله الثقيل. وضعه عند قاعدة معلمه العظيم "وركع أمامه ثم سجد حتى
    لامس الأرض، - ومن المعروف أن بعضاً من كبار الكتاب الروس، ومنهم ليون
    تولستوي، قاطعوا مهرجان بوشكين احتجاجا على الصراعات السياسية التي رافقته.
    وقال سالتيكوف شيدرين في تبرير غيابه: "كاد العاقل والمجنون، تورجينيف {12} ودستويفسكي، أن ينتزعا أمجاد بوشكين ويقتسما ثمرة مهرجانه" - .


    عاد
    دستويفسكي إلى بطرسبورغ فرحاً سعيداً. إلا أن الفرحة لم تدم طويلا. فبعد
    نشر خطابه عن بوشكين تجنت عليه الصحف والمجلات ورمته بوابل من الإنتقادات
    والتهم والإفتراءات بل وحتى الشتائم المقذعة بسبب ما ورد في ذلك الخطاب.
    وقلب لدستويفسكي ظهر المجن بعض من الذين كانوا استمعوا اليه في موسكو
    بإعجاب وشدوا على يده مهنئين. اعترض المعترضون هذه المرة على فكرة
    دستويفسكي القائلة بأن الأمة الروسية أمة متنورة تجاوزت التخلف بتبنيها
    تعاليم المسيح، وزعموا أن هذه الأمة جاهلة ولن تقوم لها قائمة ما لم تعالج
    بحقنات حضارية من الغرب. رد دستويفسكي على تلك التهجمات جملة وتفصيلاً في
    مقال نشره في العدد الوحيد والأخير من مجلته "يوميات كاتب" لعام 1880.
    وأثار المقال ضجة صاخبة في الوسط الأدبي أعادت الأمور إلى نصابها في تقويم
    بوشكين والأمة الروسية حضارياً وفي رد الإعتبار لدستويفسكي نفسه، هدأ روع
    زوجي بعض الشئ فعاد يواصل كتابة "الأخوة كارامازوف". كان عليه أن ينهي
    الجزء الرابع بأكمله حتى فرغ منه بحلول تشرين الأول 1880. وفي مطلع كانون
    الأول أصدرنا طبعة مستقلة من الرواية بثلاثة آلاف نسخة نفدت في أيام
    معدودات. فما أعظم فرحة دستويفسكي بهذا النجاح ! إنه أخر حدث سار في حياته
    المشحونة بالمنغصات والآلام.



    لم
    يعد ثمة موجب للجهاد بعد أن أفلحنا في تسديد ديوننا وصارت مجلة "البشير"
    مدينة لنا بحوالي خمسة آلاف روبل. إلا أن دستويفسكي لا يجد سبيلا للراحة.
    فهو يعد العدة لإصدار مجلته "يوميات كاتب" عامين آخرين. وينوي كتابة روايته
    الثانية عن الأخوة كارامازوف، على أن تاتي بنفس الأبطال تقريباً بعد عشرين
    عاما من أحداث الرواية الأولى، وتغدو أعمق منها وأشد إثارة، أمضى
    الأسبوعين الأولين من كانون الثاني 1881 في أحسن حال، ولم تقع له نوبات صرع
    من ثلاثة شهور. فتصورنا أن الشتاء سيمر بسلام، زارنا كثيرون يوم الأحد 25
    كانون الثاني وزوجي في صحة جيدة. وليس هناك إطلاقاً ما يشير إلى ما سيحدث
    بعد ساعات.


    استيقظ
    دستويفسكي في اليوم التالى كعادته ظهراً وأخبرني أن نزيفاً طفيفاً حدث له
    في الليل. تدحرجت المحبرة تحت خزانة الكتب فاضطر أن يزحزحها من مكانها فنزف
    الدم من فمه. ولقلة ما نزف من دم لم يقلق كثيراً ولم يوقظني ساعتها. وفي
    النهار كان هادئاً يمزح مع طفليه. إلا أن الدم سال من جديد شريطاً رفيعاً
    على لحيته في حوالي الخامسة. فصرخت في هلع رهيب. وعندما وصل الطبيب بعد ذلك
    وفحصه شحب الدم غزيراً هذه المرة وأغمي عليه، غير أن الدكتور أكد أن لا
    خطر على حياته وقال إن الدم سيتخثر في الشريان الرئوي المنفجر ويسد الثغرة،
    لاسيما وأن ما نزف منه في المرات الثلاث لا يتجاوز قدحين. توقف النزيف
    فعلا نهار 26 كانون الثاني. ومع ذلك لم يغمض لدستويفسكي جفن خلال الليل،
    طلب مني أن أحضر الإنجيل وأشعل شمعة وقال: "سأموت اليوم". فتح الإنجيل لا
    على التعيين وأعطاني اياه فقرأت فيه: "وإذا السموات قد انفتحت له فرأى روح
    الله نازلا مثل حمامة وأتيا عليه" -"متى"، الإصحاح 3: 13-17- كرر دستويفسكي
    مما قرأت "وإذا السموات قد انفتحت له" واضاف: "ألم اقل لك يا حبيبتي إني
    سأموت اليوم ؟ ".


    وفي
    التاسعة من صباح 27 غفا بهدوء ويدي في يده. إلا أن النزيف أيقظه في
    الحادية عشرة. والمنزل يغص بالحاضرين في انتظار عودة الطبيب الذي وصل في
    حوالي السابعة مساء. آنذاك انتفض دستويفسكي فجأة دون سبب واضح ورفع رأسه
    فشحب الدم على وجهه من جديد. ولم تسعفه مكعبات الجليد. أغمي عليه وشعرت أن
    النبض يكاد يضيع... وفي الثامنة والدقيقة الثامنة والثلاثين أسلم الروح.


    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Dostoevsky3

    في
    الأول من شباط 1881 شيع جثمان فيودور دستويفسكي إلى مثواه الأخير في موكبه
    عفوي مهيب لم تشهد بطرسبورغ مثله إلا في مقتل الإمبراطور ألكسندر الثاني
    بعد شهر من ذلك التاريخ !
    انتهى.



    *
    أفادت آنا غريغور، زوجة الكاتب، أن رجلاً ثقيلا، تحفظت عن ذكر اسمه، زارهم
    في 26 كانون الثاني ودار بينه وبين دستويفسكي نقاش حاد في موضوع فكري، إلا
    أن ابنتهما لوبوف فودوروفنا كتبت في مذكراتها المنشورة بالألمانية أن
    شقيقة دستوفسكي زارتهم في ذلك اليوم وحدثت بينها وبينه مشادة حول تركة
    خالتها انفتح بعدها النزيف الذي أودى بحياة الروائي الكبير"
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    بنت النيل

     نائب المدير 
     نائب المدير 
    بنت النيل


    الهوايات : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Readin10
    المهنه : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Studen10
    المزاج : مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 310
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. 3dflag23
    الاسد عدد المساهمات : 210
    نقاط : 384
    تاريخ التسجيل : 18/07/2011
    العمر : 27

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Empty
    مُساهمةموضوع: رد: مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي ..   مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Emptyالثلاثاء سبتمبر 06, 2011 2:13 am

    على هامش المذكرات
    {1} تعرف
    دستويفسكي على مفكر ثوريّ روسيّ، اسمه ميخائيل بتروشيفسكي ، وأخذ يتردد
    على حلقته الثورية منذ عام 1847م، كانت الحلقة تناقش الأوضاع السياسية
    والاقتصادية والاجتماعية في روسيا، وكان دستويفسكي عضواً نشيطاً فيها، ودعا
    إلى الثورة، وكان برنامج الحلقة ينادي بإلغاء نظام القن وبتطبيق المساواة و
    الإخاء. تأثر أعضاء الحلقة بأفكار المفكر الفرنسي فوريه، وبأفكار سان
    سيمون اللذين كانا يؤمنان أنّ الإنسان طيب بطبيعته، إلا أنّ المجتمع يفسده.
    وحاول أعضاء الحلقة الحصول على مطبعة سرية .

    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Petrashevski

    في
    ساعة مبكرة من صباح 23 أبريل 1849م وبأمر شخصي من القيصر نيكولاي الأول
    ألقى البوليس القبض على الكاتب وأودع في قلعة بتروبافلوفسكي ومعه مجموعة
    كبيرة من أعضاء حلقة بتروشيفسكي . إذ قام أحد أعضائها بالوشاية، وبينهم
    دستويفسكي، الذي أمضى تسعة أشهر في زنزانة منفردة، في قلعة بطرس وبولس في
    مدينة بطرسبرج.

    حكم على الكاتب بالإعدام، واقتيد دستويفسكي في 22
    كانون الأول عام 1849م مع أعضاء الحلقة إلى ساحة الإعدام المطّوقة بالقوات
    المسلحة، وألبسوا قمصاناً طويلة بيضاء على قرع الطبول، وقرئ عليهم الحكم
    بالإعدام رمياً بالرصاص، وأوثق ثلاثة منهم إلى أعمدة خشبية مغروزة في
    الأرض، وكان الروائي ينتظر دوره في المجموعة الثلاثية الثانية. ووقف أمام
    كلّ منهم مجموعة من الجنود شاهرين بنادقهم المحشوة بالرصاص، وظل المحكومون
    ينتظرون تنفيذ الحكم مدة نصف ساعة في صقيع بلغ عشر درجات تحت الصفر، ثم
    جاءت عربة، وقرئ على المحكومين قرار القيصر بتخفيف الحكم من حكم بالإعدام
    إلى حكم بالأعمال الشاقة، وكانت هذه العملية تمثيلية مدبرة من القيصر نفسه،
    لكي يفقدهم عقولهم، ويظهر بالوقت ذاته مظهر الرحيم الغفور، ولقد فقد أحدهم
    عقله بالفعل، وطلب أحدهم في أثناء الانتظار إطلاق النار، لأن انتظار الموت
    أصعب من الموت نفسه، وشعر دستويفسكي بعد استبدال القرار بالفرح، وكأنّ
    حياة جديدة وهبت له، وكأنّه ولد من جديد، حتى وصف الأحداث المذكورة في
    رائعته رواية "الأبله".‏



    {2}
    تسأل راسكولينكوف وهو يستانف سيره : ترى أين قرأت أن رجلاً محكوماً عليه
    بالإعدام قد قام أو تخيل قبل اعدامه بساعة أنه لو اضطر أن يعيش في مكان ما,
    على قمة, فوق صخرة, بموضع لا تزيد مساحته على موطئ قدم, وكان كل ماحوله
    هوة سحيقة , خضماً كبيراً, ظلمات أبدية, عزلة خالدة, زوابع لا تنقطع, وكان
    عليه أن يبقى واقفاً على موطئ القدم هذا مدى الحياة, بل ألف سنة, بل أبد
    الدهر, لظل مع ذلك يؤثر أن يعيش هذه العيشة على أن يموت فوراً, أن يعيش
    فحسب, أن يعيش! أن يعيش أية عيشة, ولكن أن يعيش .. نعم, أين قرأت هذا
    الكلام! رباه, ما أصدق هذا الكلام "

    هذه التأملات التي تمر بذهن رجل
    محكوم عليه بالإعدام, من رواية الجريمة والعقاب, احتفظ بها دستويفسكي من
    الدقائق التي عاشها قرب المقصلة قبل تنفيذ حكم الإعدام بحقه ثم العفو
    المهزلة!


    {3}
    دستويفسكي كان مصاب بالصرع ، وأول نوبه اصابته عندما كان عمره 9 سنوات .
    نوبات الصرع كانت تصيبه على فترات متفرقه في حياته ، و يعتقد أن خبرات
    دستويفسكي أدت إلى تشكيل الأسس في وصفه لصرع الأمير " ميشكين " في روايته
    الخالدة " الأبله ، The Idiot " ، بالإضافه إلى آخرون


    {4}
    هذه اللوحة الفنية هي أكثر الأعمال الفنية المذكورة في الجريمة والعقاب,
    تعتبر لوحة "عذراء كنيسة سيستين" واحدة من أعظم الأعمال الفنية في العالم
    ومن أكثرها نقاشا واحتفاء. وقد ظلت هذه اللوحة على الدوام رمزاً مميزاً
    للتطوّر الذي شهدته الفنون بعامة خلال عصر النهضة الإيطالي. بل إن شعبيتها
    الكاسحة دفعت بعض النقاد إلى تشبيهها بلوحة الموناليزا لدافنشي. أحد عناصر
    اللوحة التي كانت مثاراً للكثير من النقاش هو التعابير الغامضة التي رسمها
    رافائيل على وجه العذراء وطفلها وحاول النقاد ودارسو الفن فكّها ومعرفة
    كنهها. وقد حاول الكثير من المؤرخين والفلاسفة عبر العصور تفسير المعاني
    والدلالات التي أراد الفنان تضمينها في هذه اللوحة، ومن بين هؤلاء غوته
    وشوبنهاور . شوبنهاور مثلا، تحدث عن ملامح الخوف التي ترتسم على وجه وعيني
    الصبي، بينما تساءل آخرون عن مغزى إظهار العذراء في حالة حيرة وارتباك.في
    اللوحة تقف الشخصيات " العذراء وطفلها والقديس والقديسة والملاكان الصغيران
    إلى أسفل" على مقعد من الغيم تؤطره ستارتان منفتحتان إلى أعلى.


    وتبدو
    العذراء كما لو أنها هابطة من السماء فيما يتوجه القدّيس إلى اليسار بنظره
    إلى المسيح الصغير، بينما توجّه القديسة إلى اليمين نظراتها الحانية إلى
    الملاكين الصغيرين الظاهرين في أسفل الصورة. ومما لا شك فيه أن أشهر جزء في
    هذه اللوحة الفريدة هو صورة الملاكين الصغيرين إلى الأسفل، إذ ُطبعت
    صورتهما على ملايين البوسترات والصور التذكارية. لوحة "عذراء سيستين" كان
    مقدّرا لها على الأرجح أن تزيّن قبر البابا يوليوس الثاني، وقد ُعثر عليها
    في ما بعد في أحد الأديرة لتجد طريقها بعد ذلك إلى موسكو بعد الحرب
    العالمية الثانية، قبل أن تنقل إلى متحف مدينة درسدن الألمانية حيث ظلت
    هناك حتى اليوم. ُيذكر أن هذه اللوحة أصبحت رمزا للأمومة المثالية. كما أن
    خطوطها المنحنية والعريضة نزولا وصعوداً، وتوازن الكتل فيها وتوزيع الألوان
    الدقيق ما بين الذهبي والأخضر، والبني والأزرق، كل ذلك يعطي الناظر إليها
    شعورا بالسلام والطمأنينة. تلقى رافائيل تعليمه على يد أبيه، الفنان هو
    الآخر، والذي لمس في ابنه الاهتمام والموهبة. وفي زمن قياسي أصبح فناناً
    موهوباً وتجلت عبقريته وهو ما يزال في سن السابعة عشرة. انتقل الفنان بعد
    ذلك إلى فلورنسا حيث درس أعمال دافنشي ومايكل انجيلو وبارتولوميو. لوحات
    رافائيل بشكل عام تجسّد فكرة الجمال المثالي وعظمة الإنسان، و "عذراء
    سيستين" تمثل ذروة عبقريته وتفرّده الفني، ولهذا أعتبر واحداً من أعظم
    الرسامين الذين جاد بهم عصر النهضة في إيطاليا. هذا المعلومات الخاصة
    باللوحة مقتبسة من موقع لوحات عالمية.


    {5}
    في أحد أيام أغسطس الحارة من عام 1867، و عندما كان الزوجان دستويفسكي و
    آنا جريجوريفنا يستقلان قطاراً ليأخذهما من بادن إلى جنيف، توقف الزوجان
    لمدةٍ يومٍ في مدينة بازل. لم يكن توقفهما في تلك المدينة الصغيرة محض
    مصادفة، فلقد كان دستويفسكي ينوي التوجه إلى معرض بازل لمشاهدة لوحة محددة
    قرأ عنها في مذكرات رحالة روسي. هذه اللوحة تُدعى "جسدُ المسيح الميت في
    الكفن" للفنان السويسري هولبن. تحدثنا آنا جريجور في مذكراتها عن الانطباع
    القوي الذي تركته تلك اللوحة الأفقية على نفسية زوجها الحساسة:

    "في
    الطريق إلى جنيف، توقفنا ليومٍ واحدٍ في بازل، و في نيتنا أن نرى اللوحة
    التي سمع بها زوجي من أحدهم. هذه اللوحة، و المرسومة بريشة هانز هولبن،
    تصور عيسى المسيح، بعدَ أن قاسى من العذابات ما يفوق طاقة البشر، و قد أنزل
    من الصليب و أُسلم للتحلل و العفن. وجههُ المنتفخ مغطى بالجراح الدامية، و
    قد بدى مفزعاً. اللوحة تركت انطباعاً هائلاً على زوجي، و لقد توقف أمامها
    كما لو أنه مصعوق..بعدَ أن عدتُ إليه بعد ما يقارب الخمسة عشر إلى عشرين
    دقيقة، وجدتُ زوجي لا يزالُ واقفاً أمام اللوحة و كما أنه مربوطٌ بها. بدت
    على وجهه المهتاج تلك الملامح المفزوعة التي اعتدتُ أن أراها في اللحظات
    الأولى السابقة لنوبات الصرع التي تداهمه. أسرعتُ بإمساكه من تحت ذراعه، و
    أخذتهُ إلى غرفة أخرى، و أجلسته على كرسي، مترقبةً في أي لحظة مجئ نوبة
    الصرع، لحسن الحظ أنها لم تأتِ." .. هذه اللوحة كانت تشكل البنية الأساسية
    لكتابة دستويفسكي لرائعته الخالدة " الأبلة ".



    {6}
    قال الناقد بيلينسكي الكبير عام 1846 للروائي الروسيّ دستويفسكي بعد أن
    قرأ مخطوط روايته الأولى وهي رواية الفقراء : " سيأتي على روسيا روائيون
    كثيرون وستنسى روسيا معظمهم، أمّا أنت فلن تنساك روسيا أبداً، لأنّك روائي
    عظيم، المجد والشرف للشاعر الشاب الذي تحب آلهة وحيه سكان السقوف و الأقبية
    و تقول عنهم لأصحاب القصور المذهبة : هؤلاء بشر أيضاً ، هؤلاء اخوانكم "
    هكذا وصف الناقد بيلينسكي الروائي دوستويفسكي قبل أن ينشر الأخير عملاً
    روائياً واحداً.‏


    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Belinsky

    كان
    بيلينسكي ناقداً ديمقراطياً ومفكرا تقدمياً يقف على رأس جيل عظيم من
    الأدباء والمثقفين الروس الكبار وكان خارج حاشية قيصر روسيا. كان بيلينسكي
    يمتدح ويحث غوغول الكاتب الروائي الكبير على مواصلة ابداعاته بالإنحياز
    التام لقوى التغيير الديمقراطي وكان ينتقده بشدة لوقوعه تحت تأثير القوى
    والأوساط الرجعية الموالية لنظام القيصر. وبعد صدور كتاب غوغول ، مقاطع من
    مراسلات مع الأصدقاء ، الذي عكس أزمة غوغول النفسية ونزعته الموالية
    للكنيسة قدم بيلينسكي له نصحاً بالعودة الى الشعب كمنهل لإبداعه الفني
    وانتقد ما أسماه بأفكاره الشيطانية التصوفية و بعدها عن الواقع الروسي
    المثقل بالإقطاع والقنانة. رغم مدح بيلينسكي لدستويفسكي في بدايته إلا أن
    الهوة بدأت تتسع بين دستويفسكي من جهة، وبين الناقد بيلينسكي من جهة أخرى.
    كان دستويفسكي يؤمن بإمكانيات الشعب الروسيّ، ويؤمن بالإنجيل، في حين أنّ
    بيلينسكي وفريقه كانوا من أنصار الثورة على الواقع المر والظالم!


    {7}
    عندما كتب دوستويفسكي روايته الأولى الفقراء أخذ الشاعر الروسي الكبير
    نيكراسوف مخطوطة الرواية قبل صدورها إلى بيلينسكي ناقد روسيا الجبار وينادي
    وهو على الباب ملوحاً فى يده كالراية قائلا: "لقد نشأ غوغول جديد"

    ولد
    نيكولاي نكراسوف في العاشرة من شهر كانون الاول عام 1821 في بلدة نيمروفيا
    في أوكرانيا لينتقل مع أسرته بعدها الى "كرشنيفا" الواقعة على نهر الفولكا
    في مقاطعة ياروسلافل" . بعد تخرجه في مدرسة القرية قرر والده إرساله الى
    بطرسبورغ ليلتحق بالمدرسة العسكرية إلا أن نكراسوف تمرد على هذا الأمر
    محاولاً الالتحاق بالجامعة مما دفع بوالده الى قطع مصروفه فانخرط نكراسوف
    للعمل بغية الحصول على لقمة العيش. في سن التاسعة عشرة، أصدر مجموعته
    البكر"أحلام وأصوات".


    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Nekrasov

    في
    عام 1840 انضم نكراسوف مع رهط من الأدباء الشباب حول الناقد الكبير
    بيلينسكي الذي ساعد نكراسوف في تطوير الاتجاه الثوري الديمقراطي ومناهضة
    الحكم القيصري وفي عام 1846 أشرف نكراسوف على المجلة الأدبية "المعاصر"
    التي يعود الفضل لتأسيسها الى الشاعر الروسي الكبير "بوشكين"، وقد ساهم في
    تحريرها أبرز أدباء العصر أمثال جرونشيفسكي ودبروليوبوف وتورجينيف وليف
    تولستوي وشيدرين, فكانت منبر الأدب الثوري. وفي عام 1864 أصدر نكراسوف
    ملحمته الخالدة "السكة الحديد" والتي تعتبر واحدة من أهم أشعاره الإجتماعية
    حيث يخلص فيها الشاعر للفلاح الروسي وفي عام 1866 أغلقت مجلة المعاصر مما
    اضطر نكراسوف عام 1867 لشراء امتياز صحيفة "مذكرات وطنية" ليجعل منها بوقاً
    صادحاً للتغني بالوطنية الصحيحة وفي عام 1870 أصدر ملحمته الشعرية "الجد"
    والتي يجسد فيها انتفاضة الديسمبريين ليصدر بعدها "نساء روسيات".

    " لقد تعلم على يد نكراسوف جيل كامل من الثوريين"
    هكذا يقول لينين عن نكراسوف


    {8}
    عندما قُتل إليكساندر بوشكين أمير شعراء روسيا في التاسع والعشرين من
    يناير عام 1837 ولّد موته حزناً لدى الشعب الروسي الذي أحبه حباً كبيراً,
    لأنه كتب عن آلامهم ومعاناتهم متغنياً بالحرية وساخراً من الحكم القيصري
    الظالم.‏ الكتابة عن بوشكين والتأثير الذي أحدثه لا يمكن اختصاره بكلمات
    قليلة, ويكفي حديث دستويفسكي عن شاعره الأثير وهو يدشن نصب بوشكين التذكاري
    وهو يقول إن بوشكين يجسد الروح القومية الروسية لأنه اُوتي قدرة جبارة على
    إدراك عبقرية الشعوب الآخرى وعلى فهمها. بالرغم من أن بوشكين لم يعش أكثر
    من 36 عامًا، فإنه قد ترك الكثير من الآثار الأدبية, لدرجة أن قراءه يشعرون
    أنه قد عمَّر كثيرًا. اُعتبر عصره هو العصر الذهبي للشعر الروسي، وهو عصر
    التقارب بين الأدب الروسي من جهة والآداب العربية والشرقية من جهة أخرى.
    وأصبح متسيداً للشعر بحيث لا مكان لظهور نجوم جديدة .

    بعد انتشار
    خبر وفاته وصل الخبر إلى الشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف الذي اهتز كيانه
    لفقدان هذا البوشكين . لم يكن هذا الشاعر الذي يعبر في كثير من أشعاره
    العاطفية عن الإحباط الشديد والتبرم بالحياة في روسيا وكان يحلم في شعره
    بفردوس بعيد المنال, ذا شهرة كبيرة أو تأثير كبير, فبوشكين متسيد للشعر ,
    ولامكان لوجوه أخرى تفرض نفسها في هذا المجتمع. كتب بعد أن وصل إليه خبر
    مقتل بوشكين " قصيدة مقتل شاعر " التي جعلته مشهوراً على الفور .تلك
    القصيدة أعطت المجد الى ليرمنتوف, وأورثته إمارة الشعر , والشقاء الإنساني
    الذي انتهى بمثل النهاية التراجيدية المعروفة :



    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Irmentov

    مَاتَ الشَّاعر !
    سَقَطَ شهيداً
    أسيراً للشرفِ

    الرصاصُ في صدرِه يَصرُخُ للانتقام
    والرأسُ الشَّامِخُ انحنى في النهاية
    مَات !

    فَاضَت رُوحُه بالألَمِ من الافتِراءات الحًقيرة
    حَتَّى الانفِجَار ..
    وَقَفَ وحيداً في المواجهة وها قد قُتل !
    قُتِل !

    فَكُلُّ نُوَاحٍ الآن عَقيم
    وَفَارِغةٌ تَراتِيلُ الإطرَاء
    وَهَمهَمَات الأسَى الكَسِيح

    ونحنُ نُحملقُ في إرادةِ الموت !
    وَبَعد – فهل أنَتُم أبرِيَاء
    يَا مَن حَاصرتُم في قَسوةَ
    مَوهِبتَهَ الحُرَّةَ الشُّجَاعة ؟

    يَا من نَفَختُم في الَّلهَب الخَامِد
    حَتَّى فَورة الغَضَبِ المُفَاجِيء
    فَلتَبتَهَجُوا إذَن
    فَلَقَد كانَ صَفَاءُ الألَمِ فَوقَ طَاقَةِ الاحتِمَال

    وَاشهَدُوا الآن
    أنَّ قندِيلَ العَبقَرِيةِ انطَفَأ
    وإكليل الغَارِ عَلى جَبهَتِه يَذوِي
    لَم يعرف القَاتِلُ التَّردُّد
    وَهَو يُصَوبُ في بُرُود ...
    لا طَلقَةٌ واحدةٌ أخطَأَت القَلب
    وَلا وَحي مُنقِذٌ أَرعَش البُندُقِية في اليدِ الوَحشِيَّة


    كَيفَ استَطَاعَ هَذَا اللاجِئُ الوَضِيعُ الانتِهَازِي
    الأَدَاةَ الخَسِيسَة العَميَاء ،
    أَن يَحتَقِرَ أَرضَنَا هَكَذَا
    وَيَسخَرَ، في عَجرَفَته، من لُغَتِهَا وتَقَالِيدِهَا الأَصِيلَة
    وَ لا يَستثنِي مَفخَرَتَها الكُبرى
    فَيَتَمَهَّل لِيَتَسَاءَلَ ضِدَّ مَن رَفَعَ يَدَه !
    قُتِل

    مَاتَ وارتَحَل
    مِثلَ ذَلِكَ الشَّاعِرِ الرِقيقِ القَلبِ المَغمُور
    وَالَّذي أَنشَدَ فيه قَصَائِدَ رَائِعة
    مَن مِثلَه بِيَدٍ قَاسِيَة خَرِبَة
    سَقطَ ضَحِيَّةَ الغِيرَة العَميَاء
    لماذَا غَادَرَ صَدَاقَاتِه وَتَأمُّلَاتِه الآمِنَة
    إلى عَالَم مَن الحَسَدِ الخانِق

    لِقَلبٍ عَشِقَ الحُرِّيَّةَ واشتَعَلَ بالحُب ؟
    لِمَاذَا أَسلَمَ يَدَيه لِلوُشَاةِ التَّافِهين ؟
    لمِاذَا استَسلَمَ لِلكَلماتِ الكَاذِبَةِ والابتِسَامَاتِ المُخَادِعَة ؟
    وَهَو مَن كَانَ
    مُنذُ الشَّبَابَ قَادِرا على اكتِشَافِ حَقِيقَة النَّاسِ

    لَقد سَلبَوه تَاجَهُ وَتَوَّجُوه بِالشَّوك
    لِيُمَزِّقُ الشَّوكُ الخبئ
    جَبهَةَ الشَّاعِرِ النَّبِيلَة
    وكَانَت لحََظاتُه الأخِيرَة
    مُسَمَّمَة بالشَّائِعَاتِ والهمس البَذِئ
    وَهَا قّد مَات

    بِالعَطَشِ العَبَثِي إلى الانتِقَام
    ُمعَذَّباً بِالآمَالِ المُحَطَّمَة التي تَتَهاوَى سَريعا
    لَن تَتَرَدد الأُغنِيَات الرَّائِعَةُ مِن جَدِيد
    فَالصَّوتُ النَّبِيل يَخلُدُ للصَّمت
    في الحُجرَةِ الصَّغيرَةِ دُونَ بَاب
    وَآهٍ ، أُغلِقَت الشَّفَتَان

    أَمَّا أَنتُم أَيَّتُهَا السُّلالَةُ المُتَعَجرِفَة
    يَا أَبنَاءَ من اشتُهِرُوا بِمَخَازِيهم الوَضِيعَة
    يَا مَن بِقَدَمٍ ذَلِيلَةٍ قَد دُستُم
    بَقَايَا عَائِلاتٍ نَبيلَة تَجَهَّمَ لَهَا الحَظ !
    يَا مَن تُحِيطُون بِالعَرشِ في قُطعَانٍ شَرِهَة
    كَالجَلاَّدِين الَّذِينَ يُخفُونَ نَوَايَاهم الحَقِيرَة
    في أَثَوابِ العَدَالةِ ، مُتَظَاهِرينَ بَالبَرَاءَة
    مَن أَجلِ ذَبحِ الحُرِّيَةِ والَمجدِ والعَبقَرِية !

    هُنَاكَ حُكمُ الرَّب
    حُكمٌ رَهِيبٌ يَنتَظِر
    لا يَمِيلُ مَعَ الذَّهَب
    وَأَمَامَ العَرشِ الإِلَهِي
    لَن تَنقِذُوا جُلُودَكم بِقَذفِ الأَوحَال ،
    ولَن تَستَطِيعَ كُلُّ دِمَائِكم القَذِرَة
    أَن تُعَوِّضَ أَبَداً الدَّمَ العَادِلَ لِلشَّاعِر .



    في
    هذه القصيدة هاجم ليرمنتوف بقسوة موقف الموظفين الكبار في البلاط القيصري,
    الذين تبادلوا النكات من بوشكين وسخروا منه.وأشاد بعظمة الشاعر الراحل
    وتبيان الدور العبقري لهذا الرجل في الحياة الروسية , ووصف مهاجميه وأعداءه
    بأنهم مجموعة من عشاق الفساد, خانقوا الحرية والعبقرية والعظمة. انتشرت
    هذه القصيدة بين أرجاء الشعب على وجه لا يصدق, فتلقفها الجميع, وأصبحوا
    يرددونها كترنيمة مسيحية تذكر بعبقري قدم للأمة الشيء الكثير. تلقفت
    القصيدة إحدى السيدات من البلاط القيصري, فأرسلت نسخة من هذه القصيدة إلى
    القيصر قائلة : ها هنا دعوة إلى الثورة!

    ويغضب القيصر نقولا من هذه
    القصيدة وشاعرها, فيأمر بالقبض على هذا الشاعر, ميخائيل ليرمنتوف , الضابط
    ذو الثالثة والعشرين من العمر, وأحد فرسان الحرس الإمبراطوري. وتكون نتيجة
    القبض عليه النفي الأول , وانزال رتبته, وارساله إلى إحدى كتائب المشاة في
    القوقاز حيث كان الروس في حالة حرب مع الثوار القوقاز. عندما رحل ليرمنتوف
    إلى هناك كان اسمه قد أصبح معروفاً لدى العامة, وأصبح نفيه الأول بداية
    حياته كشاعر. ثمّ أنّ القدر لم يمنحه بعد ذلك إلا فرصة وجيزة للغاية, فلم
    يمهله الموت سوى أربعة سنوات فقط بعد موت بوشكين, ليلتحق به وهو في أوّج
    العطاء الإبداعي عن سنّ لم تتجاوز السابعة والعشرين .

    لا يمكن وصف
    شخصية ليرمنتوف إلا بالإندفاع ومعادة القصر والطبقة العليا . بعد نفيه
    الأول تشاجر مع ابن السفير الفرنسي في روسيا على سيدة جميلة ,ثم تحداه الى
    المبارزة، ووصلت الحادثة الى القيصر, فألقى القبض عليه ونفاه مرة أخرى الى
    القوقاز,,وأهان دوقة من الدوقات ليعلن عن معاداته الصريحة للقصر. كان
    القيصر الروسي نيقولا يكرهه كراهية شخصية. فأي مصير اسود ينتظر شاعر كهذا؟
    وكانت الاجابة في يوليو عام 1841م، اذ تنازع مع صديقه مارتينوف، حيث كان
    الاثنان يتوددان الى نفس الفتاة, وقتل في المبارزة بحد السيف كما قتل من
    قبل بوشكين بحد السيف, وكأن قدر روسيا أن يموت أعظم شاعرين بها بحد السيف
    وبسبب امرأة ما!


    {9}
    ولد الشاعر الفيلسوف فلاديمير سيرجيفتش سولوفيوف عام 1853 وتوفى عام 1900
    عن سبع وأربعين سنة من العمر .تعددت دراسات فلاديمير بين العلم والآداب
    واللاهوت والفلسفة. التحق بجامعة موسكو وتلقى فيها دروساً في الرياضيات
    والطبيعة كما درس التاريخ وعلوم اللغة والآداب ودرس اللاهوت والفلسفة فى
    أكاديمية موسكو الدينية واهتم بالمعتقدات الانسانية وقدم فيها أبحاثا مهمة
    جلبت له شهرة واسعة وحدد هدفه فى الحياة بمساعدة البشرية على الجمع بين
    المادي والمثالي.عُمد مدرساً بجامعة موسكو وعمره عشرين عاماً وحصل على
    الماجستير فى أزمة الفسلفة الغربية ووصل إلى منصب رئيس كرسي الفلسفة.


    {10}
    القارئ لهذا الجزء بالتحديد من رواية الجريمة والعقاب - حلم راسكولنيكوف
    حول الحصان القتيل - لن يستغرب بكاء الحضور وهم يسمعون القصة من فم
    دستويفسكي. هذا المقطع لا ينسى في الرواية, وهو من المشاهد المفزعة و
    المثيرة بلا شك. لم تنتابني رغبة في البكاء, لكن بحق, أثارتني الصورة
    المرعبة لوصف الحصان القتيل, كان الوصف آية من آيات التصوير الفني . و فهمت
    جيداً كيف يكون الإنسان شيطاناً وجباناً كما يقول رازوميخين في حالة
    السكر. هذا المقطع مثير جداً وأعدت قراءته مرتين لجمال تصويره الفني.


    {11}
    حشدت لهذا الحفل إمكانيات ضخمة بغية أن يكون أكبر تجمع للمثقفين الروس منذ
    فترة طويلة. منذ البداية لاح في الأفق شبح الصدام بين التيارين الأساسيين
    اللذين كانا يهيمنان على البلاد: تيار القوميين السلافيين الذين يركزون على
    الأصالة الروسية، وتيار المستغربين الذين يريدون اللحاق بالغرب بأي شكل.
    وكان يتوقع حضور الأقطاب الكبار للأدب الروسي وفي طليعتهم الثلاثي المقدس:
    تورغينييف، تولستوي، دستيوفسكي.لهذا السبب قدم تورغينييف من فرنسا، حيث
    يقيم، إلى روسيا، وذهب مباشرة إلى تولستوي لكي يقنعه بحضور هذا الاحتفال
    الذي لا يمكن أن يكتمل بدونه. ومنذ البداية سأله تولستوي: هل سيحضر
    دستويفسكي؟ فأجابه: أعتقد ذلك. فقال له: لن أحضر. ولماذا؟ لأنه سيسيطر على
    الجو، وسيتحول الحفل من تكريم بوشكين إلى تكريس لدستيوفسكي.

    كان
    السؤال الأساسي المطروح على الاحتفال هو التالي: ما هو بوشكين بالنسبة
    للأدب الروسي؟ ما مكانته، ودلالته، ومغزاه؟ ثم بشكل أخص: هل يجسّد في شخصه
    العبقرية الروسية أم العبقرية الأوروبية، ناهيك عن الكونية؟ كان طلاب جامعة
    موسكو والعديد من الحضور الهائل، ينتظرون من أدبائهم الكبار جواباً عن هذا
    السؤال. في البداية أُعطي حق الكلام لتورجينييف الذي كان قد عرف بوشكين في
    حياته، ويعتبر نفسه أحد تلامذته والمعجبين به، لكن خطابه كان معتدلاً
    ورزيناً جداً.

    لم تشبع أقوال تورجينيف جمهور روسيا، فقد كانوا
    يتوقعون شيئا آخر، تحليلاً أعمق بمكانة بوشكين. ولهذا راحوا ينتظرون وقائع
    اليوم التالي للمؤتمر، حيث ينتظر أن يصعد دستويفسكي على المنصة.

    وفجأة،
    ظهر على المنصة شخص غريب الشكل يكاد جسده النحيل المتهدّم يتهاوى من شدة
    الإعياء والتوتر وسنوات الحرمان الطويلة. وبدا وكأن لباسه هو الذي يحمله،
    ويجعله يتوازن، وليس هو الذي يحمل لباسه. كان وجهه الأصفر وعيناه الغائرتان
    ولحيته الكثيفة تخلع عليه هيئة أولئك الممسوسين الذين طالما تحدث عنهم في
    رواياته. أخذ يتكلم بصوت أجشّ مبحوح لا يكاد يسمع في البداية. ثم شيئاً
    فشيئاً راح الصوت يتضح ويقوى حتى سيطر على القاعة كلياً. تجمع جمهور ضخم
    وخيّم على الجميع صمت رهيب. وأخذ العُصاب الجنوني يؤجّج في داخله نار
    العبقرية، فراح يكسف الخطباء جميعاً كما تكسف الشمس النجوم الصغيرة في وضح
    النهار. ما الذي قال دستويفسكي في هذا الخطاب الشهير، الذي توج حياته
    الأدبية والذي يعتبر بمثابة الوصية التي تركها للأجيال القادمة؟


    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. AleksandrPush

    قال بما معناه: من
    هو بوشكين؟ إنه تجسيد للروح القومية الروسية في كل ما تمثله من قدرة على
    هضم واستيعاب عبقريات الأمم الأخرى. إنه تعبير عن روسيا فيما تحمله من
    رسالة كونية إلى البشرية. وروسيا هذه التي طالما تغنّى بها كانت ولا تزال
    مسؤولة عن قيادة العالم على درب التقدم الأخلاقي. وهو لا يقل أهمية بالنسبة
    لنا عن شكسبير بالنسبة للإنجليز، فالشخصيات الإيطالية التي يستخدمها
    شكسبير في مسرحياته تتحدث وكأنها إنجليزية. وهذه هي سمة العبقرية: فهي تصهر
    وتهضم عندما تنقل عن الآخرين. وبالتالي فلا يعود النقل خيانة للذات
    القومية. وهذا ما فعله بوشكين أيضاً، فقد كان إسبانياً في كتابه دون جوان،
    وإنجليزياً في كتابه عيد أثناء الطاعون، وألمانياً في كتابه مقطع من فاوست،
    وعربياً في كتابه التأثر بالقرآن الكريم، وروسياً في كتابه بويرس غودونوف،
    كان كل ذلك دفعة واحدة. ولأنه كان كل ذلك، لأنه عرف أن يكون كل ذلك، فإنه
    روسي حقيقي، لا معنى للإنسان الروسي إن لم يكن أوروبياً وعالمياً في آن
    معاً، كأن تكون روسياً حقيقياً، أن تكون روسياً بالكامل يعني أن تكون أخاً
    لكل البشر!
    "

    ما أن انتهى دستويفسكي من كلامه، حتى دخل
    الجمهور في حالة هستيرية. التصفيق المتطاول الذي لا ينتهي كان يختلط بشهقات
    الزفير والنحيب، وزغردات النساء كانت تختلط ببكاء الرجال. والطلاب هجموا
    عليه على المنصة لكي يلمسوه، والطالبات أخذن بتقبيل يديه كيفما اتفق، وسقط
    أحد الطلاب على قدميه مغمياً عليه، وراح المتخاصمين من سلافيين ومستغربين
    يتعانقون بعد أن نجح دستويفسكي في مصالحة شطري روسيا. وحتى تورجينييف هجم
    عليه لكي يعانقه مستسلماً أمام عبقريته التي لا تقاوم.. وأما تولستوي الذي
    رفض الحضور بإصرار، فقد صدقت توقعاته، والواقع أنه ما كان سهلاً عليه أن
    يشهد كل هذا التبجيل لمنافسه الأوحد على عرش الآداب الروسية.

    {12}
    ايفان سيرغيفيتش تورجينيف (1818 ـ 1883) واحداً من أهم كتّاب الواقعية في
    الأدب العالمي. منذ أن نشر قصصه الأولى قال عنه الناقد الروسي الكبير
    بيلنسكي: إن تورجينيف سيصبح كاتب روسيا المبدع في المستقبل.

    نشر
    روايته رودين وبعدها رواية آسيا عام 1858، ورواية بيت النبلاء عام 1859،
    ولعل روايته الشهيرة آباء وبنون عام 1862 التي أهداها إلى ذكرى بيلنسكي
    تعتبر من أهم أعماله الروائية على الإطلاق والتي حققت له شهرة عالمية. فقد
    قال عنها تشيخوف: أية رواية عظيمة هذه.


    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي .. Turgenev

    في
    سنوات العشرين الأخيرة عاش تورجينيف في الغربة فسافر أولاً إلى بادن بادن
    ثم ذهب إلى باريس حيث تعرّف على مجموعة من الأدباء والمفكرين أمثال فلوبير،
    دودي، اميل زولا، الإخوة غونكور، غي دي موباسان. هؤلاء جميعاً وجدوا في
    تورجينيف واحداً من أهم كتّاب الواقعية في الأدب العالمي. فقد اعتبره
    موباستان معلمه الأول. وكان كل من هوغو وتورجينيف قد أصبحا من كبار كتّاب
    اتحاد الأدباء العالمي الذي عقد في باريس عام 1878.


    ..

    م\ن
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
     
    مذكرات آنا غريغور ريفنا .. دستويفسكي ..
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » المحكمة الدولية تؤكد تعميم الانتربول مذكرات توقيف المتهمين في اغتيال الحريري

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    ღ منتدى ثمار الحب ღ :: المنتدى العــــــام :: عظماء التاريخ-
    انتقل الى: