مذكرات زوجة الكاتب
آنا غريغور ريفنا دستويفسكيترجمة : خيري الضامن1/3لم
أفكر يوما في كتابة المذكرات، فأنا أفتقر الى الموهبة الأدبية. وكنت طوال
عمري مشغولة بإصدار مؤلفات الراحل زوجي، فلا وقت عندي لأمور أخرى. إلا أن
صحتي تدهورت في عام 1910 فعهدت إلى آخرين بمتابعة طبع مؤلفاته، وانزويت
بعيداً عن العاصمة بطرسبورغ أعيش في وحدة مطبقة. وكان لابد أن أملأ فراغ
أوقاتي، وإلا فلن يطول بي العمر، أعدت قراءة يوميات زوجي ويومياتي فوجدت
فيها تفاصيل هامة تستحق أن يطلع عليها الناس. ثم أمضيت خمس سنوات 1911
-1916 في إعداد هذه المذكرات .
لكنيسة القديس ألكسندر نيفسكي في
بطرسبورغ منزلة خاصة في نفسي. إذ أن مقبرتها تحنو على رفات المرحوم زوجي
فيودور دستويفسكي، واذا جاء أجلي فعسى أن أدفن جنبه، ثم أني ولدت في
الثلاثين من آب 1846 في عيد القديس نيفسكي بشقتنا الفخمة - 11 حجرة -
المطلة على ساحة كنيسته. كان المنزل يعج بالضيوف يتفرجون مبتهجين، من
الطابق الثاني، على موكب الصلبان ومراسم العيد في الساحة. وكانت أمي
الجميلة للغاية، كما علمت بعد سنين، تقوم على خدمتهم فرحة مستبشرة. وفجأة
جاءها المخاض. وبعد ساعة رأيت النور. استقبل الضيوف نبأ ميلادي بالتهليل
وقرع الكؤوس، وتنبئوا لي بمستقبل باهر سعيد. فالقليلون من البشر يولدون في
مناسبات سارة كهذه، بالفعل ورغم الصعاب والآلام التي عانيتها فيما بعد،
أعتبر نفسي سعيدة للغاية، ولا أرى حياة أفضل مما عشت.
أمضيت طفولتي
مع أخي وأختي في حياة هادئة متمتعين بحنان أمنا السويدية الأصل وأبينا
الروسي الأوكراني المنشأ. وأنهيت الدراسة الابتدائية في مدرسة كل دروسها،
ما عدا الدين، تلقي بالألمانية، وأفادتني هذه اللغة كثيرا حينما أمضيت مع
زوجي عدة سنين في الخارج. التحقت بمعهد التربية لكني لم أكمل الدراسة فيه.
وفي عام 1866 دخلت دورة الإختزال بإصرار من والدي الذي ربما كان عرافاً
يقرأ الغيب ويدري أني سألقى سعادتي بفضل هذه المهنة. فقد أبلغني أستاذي في
الدورة أن الكاتب دستويفسكي يبحث عن شخص يجيد الإختزال ليملي عليه روايته
الجديدة " المقامر" بحوالي مائتي صفحة وبأجر قدره خمسون روبلا. ورشحني
الأستاذ لهذه المهمة. خفق قلبي فرحا. كنت، شأن جميع فتيات الستينات، أنشد
الإستقلال وأبحث عن عمل يجعلني أعتمد على نفسي، لاسيما وأن تلك فرصة نادرة
للتعرف على كاتب من أحب الكتاب الى والدي، وأنا شخصياً معجبة به للغاية،
وكنت أبكي عندما أقرأ روايته "مذكرات من بيت الأموات".
تصورته
شيخاً بعمر والدي، عبوسا كئيبا كما يتصوره الكثيرون، وجئت إلى الموعد
المحدد. كان يقيم في شقة متواضعة بعمارة ضخمة يسكنها تجار وباعة وحرفيون.
وذكرتني في الحال بالعمارة التي يقيم فيها راسكولنيكوف بطل "الجريمة
والعقاب". مكتبه واسع بنافذتين مضيئتين أيام الصحو، لكن جوه فيما عدا ذلك
حالك ساكن يثقل على النفس. وعندما رأيته لأول مرة خيل إلي أنه عجوز بالفعل،
ولكن ما إن تحدث معي حتى تضاءلت سنه وبدا لي في الخامسة والثلاثين. كان
متوسط البنية معتدل القامة، شعره كستنائي فاتح أقرب الى الأشقر، مدهون
ومصفوف بأناقة. وجهه شاحب كوجوه المرضى. يرتدي سترة من الجوخ الأزرق تكاد
تكون بالية، إلا أن قميصه ناصع البياض بياقة منشأة وردنين بارزين. ولكن ما
أدهشني فيه هو عيناه، لاختلافهما الواضح. إحداهما بنية، وفي الأخرى بؤبؤ
متسع يحتل فضاء العين ويأتي على معظم القزحية، مما يجعل نظراته لغزاً من
الألغاز. في نوبة مبكرة من الصرع سقط دستويفسكي وأدمى عينه اليمنى فوصف له
الطبيب علاجا بالأتروبين أدى الافراط في استخدامه إلى توسع البؤبؤ لهذا
الحد.
في أول لقاء عمل معه حدثني، وهو يدخن السيجارة تلو السيجارة، عن حكم الإعدام الذي صدر بحقه مع جماعة بتراشيفسكي
{1} بتهمة التآمر على النظام فى 22 كانون الأول 1849:
-
كنت واقفاً فى الساحة أراقب بفزع ترتيبات الإعدام الذي كان سينفذ بعد خمس
دقائق. كلنا في قمصان الموت موزعين على وجبات من ثلاثة محكومين. وكنت
الثامن فى التعداد، ضمن الوجبة الثالثة. أوثقو الثلاثة إلى الأعمدة. وبعد
دقيقتين يطلق الرصاص على الوجبتين الأوليين ويأتي دوري...يا إلهي، ما أشد
رغبتي في الحياة
{2} .
تذكرت كل ماضي الذي هدرته وأسات استخدامه، فرغبت فى الحياة من جديد وفي
تحقيق الكثير مما كنت أنوي تحقيقه لأعيش عمراً طويلا... وفى اللحظة الأخيرة
أعلن وقف التنفيذ. حلوا وثاق رفاقي وقرأوا حكماً جديداً على كل منا. وكانت
من نصيبي هذه المرة الأشغال الشاقة أربع سنين. فما أعظم سعادتي. أمضيت
باقي الأيام قبيل الرحيل إلى المنفى أغني و أترنم فى الثكنة تلك يوم. ما
أشد فرحتي بحياة وهبت إلى من جديد..
اقشعر بدني من حديثه. وأدهشني
بصراحته. فهذا الرجل الذي تبدو عليه مظاهر الإنطوائية القاتمة يتحدث عن
تفاصيل حياته بصدق وإخلاص مع فتاة غريرة يراها لأول مرة. ولم تتبدد حيرتي
من هذا التناقص إلا بعد أن اطلعت على أوضاعه العائلية وأدركت سبب بحثه عن
أناس يضع ثقته فيهم ويفضي إليهم بما يعتمل في نفسه. كان يشعر بوحدة قاتلة
بعد وفاة زوجته الأولى ماريا وشقيقه الأكبر ميخائيل ويعيش محاصراً من قبل
الخصوم والحساد والدائنين، كانت انطباعات اليوم الأول مرهقة للغاية. عدت
إلى منزلي فى ساعة متأخرة من الليل وأنا في أقصى درجات الإعياء بحد أن أملي
على فيودور دستويفسكي أولى صفحات "المقامر". و لأول مرة فى حياتي أرى
إنساناً ذكياً وطيب القلب إلى هذا الحد، لكنه تعيس بنفس القدر وكان الجميع
أشاحوا بوجوههم عنه. فتألمت وشعرت بالإشفاق عليه.
تأخرت عليه
قليلا في اليوم التالي. فوجدته قلقاً للغاية. قال لي إنه ملزم بإنهاء
الرواية فى غضون شهر، فإن دائني مجلة " الوقت " التى كان يصدرها شقيقه
ميخائيل وتعهد هو بتسديد ديونها بعد وفاته هددوه بمصادرة ممتلكاته وزجه في
السجن. كانت الديون المستحقة حسب الكمبيالات ثلاثة آلاف روبل. وبهذا المبلغ
باع دستويفسكي الى ناشر اسمه ستيلوفسكي حقوق طبع مؤلفاته بثلاثة مجلدات
والتزم فضلا عن ذلك بتأليف رواية جديدة يدخل ريعها ضمن المبلغ المذكور.
وكان ستيلوفسكي أقدم على خطوة غادرة، حيث اشترى قبل ذلك بأبخس الأثمان
كمبيالات ديون ميخائيل. فعاد إليه المبلغ الذي دفعه إلى دستويفسكي. وها هو،
فوق ذلك، يشترط تسليم الرواية الجديدة فى مدة غير معقولة، وإلا ستعود
إليه، حسب العقد الموقع مع دستويفسكي، حقوق نشر مؤلفاته لأجل غير مسمى.
وكان يأمل بالطبع أن يعجز الكاتب المريض عن الإيفاء بتعهده، لاسيما وأنه
كان فى عام 1866 ذاته على وشك إنهاء "الجريمة والعقاب".
صرت أتردد
عليه يومياً في الثانية عشرة، فيملي علي فصول "المقامر" حتى الرابعة، على
ثلاث وجبات بنصف ساعة أو أكثر. وفيما بين ذلك نتحدث في شتى الأمور.
وبالتدريج تحسن مزاجه وتعود على الإملاء، فهو يمارسه لأول مرة. وكان يسره
بخاصة الرد الى تساؤلاتي عن الأدباء الروس. فهو، مثلا، يعتبر نيكولاي
نكراسوف صديق الطفولة ويقدر موهبته الشعرية كثيرا. كما يقدر أبولون مايكوف
كشاعر موهوب وإنسان ذكى ومثال للطيبة. ويرى أن ايفان تورغينيف روائى من
الدرجة الأولى، لكنه يأسف لأن هذا الأخير أمضى وقتا طويلا فى الخارج ولم
يعد يتفهم طبيعة روسيا والروس كما ينبغي لكاتب كبير مثله - كانت العلاقة
بين دوستويفسكي، تورغينيف معقدة يغلب عليها الجفاء والقطيعة -.
و
على ذكر الخارج أبلغني ذات مرة، وكان فى حالة من اليأس و القنوط، أنه مقدم
على اختيار أحد طرق ثلاثة، فإما الرحيل إلى القدس ليقيم مع الطائفة
الأرثوذكسية الروسية هناك ربما لآخر العمر، وإما الهجرة الى أوروبا ليغرق
في القمار الذي أولع به، و إما الزواج للمرة الثانية لعله يجد السعادة
والفرحة في أحضان العائلة. وكانت كفة القدس هى الراجحة من حيث جدية نوايا
دستويفسكي، فقد عثرت بين أوراقه فيما بعد على رسالة مؤرخة في 3/6/1863 من
رئيس اتحاد الأدباء الروس آنذاك إلى القنصل الروسي فى القسطنطينية لتسهيل
أمر رحيله، وسألني رأيي في هذا الخيار الذي كان سيغير مجرى حياته الفاشلة
تغييراً جذرياً. تحيرت فى الجواب. بدت لى نيته فى الرحيل إلى القدس
العثمانية أو إلى كازينوهات أوروبا غامضة و خيالية ولعلمي بوجود عوائل
سعيدة بين معارفي وأقربائي نصحته أن يبحث عن أمنيته المنشودة فى الأسرة.
فعلق قائلا:
- وهل تتصورين بأن امرأة ستقبلني زوجاً ؟ و أية امرأة أختار؟ راجحة العقل أم طيبة القلب؟
- راجحه العقل طبعاً، كي تناسبك.
- كلا، أفضل امرأة طيبة القلب تشفق على وتحبني.
واصلنا
العمل فى " المقامر" حتى غدا واضحاً في آخر الأسبوع الثالث أننا سنتمكن من
تسليم الرواية في الموعد. وصرنا كلانا نشاطر أبطالها حياتهم. فكان لى
بينهم، كما لدستويفسكي، شخوص أحبهم وآخرون أنفر منهم. أشفقت على الجدة التى
خسرت أموالها وعلى مستر استلي، لكنى امتعضت من بولينا ألكسندروفنا ومن
البطل الرئيسي أليكسى ايفانوفيتش، فيما التزم دستويفسكى جانب هذا الأخير
وأكد أنه شخصياً جرب الكثير من مشاعر البطل و انطباعاته، أنجز دستويفسكى
روايته فى 26 يوماً وسلمها إلى الشرطة، مقابل ايصال، ليتفادى غدر الناشر
الماكر. و قبضت أجرتي، لكن علاقتي بالكاتب لم تنقطع. فقد أبدى رغبة فى
زيارة عائلتي. ودعوته الى بيتي بعد أيام. أعجبت به أمي كل الإعجاب بعد أن
كانت فى البداية متهيبة مرتبكة لزيارة الكاتب " الشهير" و هو، والحق يقال،
جذاب للغاية يسحر، كما لاحظت فيما بعد، حتى خصومه الذين لا يرتاحون إليه
عادة، عرض علي أن نواصل العمل فى الجزء الأخير من "الجريمة و العقاب" هذه
المرة. وكنت مترددة بعض الشيء، لكني وافقت عندما رأيته مصراً.
بعد
ثلاثة أيام زارنا من جديد دون سابق إنذار. وطلب أن آتى إليه لتدقيق شروط
العمل. ولكنى حينما جئته، فى الثامن من تشرين الثاني 1866، فوجئت به
يصارحني بحبه ويرجوني أن أقبل به زوجاً... كان منفعلا ومبتهجاً حتى بدا لي
فى سن الشباب. سألته عن سبب ابتهاجه فأجاب أنه رأى حلماً فى المنام.
فقهقهت، لكنه أوقفني قائلا: "لا تسخري مني. أنا أؤمن بالأحلام. و أحلامي
تتحقق دوماً. حينما أرى المرحوم شقيقي ميخائيل أو يحضرني طيف والدي في
المنام لا بد أن تحل بي مصيبة. لكنى هذه المرة رأيت جوهرة براقة بين
مخطوطاتي فى هذا الصندوق، ثم توالت أحلام أخرى ولا أدري أين اختفت الجوهرة
". فقلت له: " الأحلام تفسر عادة بالمقلوب"، وأسفت لما قلت. فقد أمتقع وجهه
وسأل: " تعتقدين أنني لن ألقى السعادة و أن ذلك مجرد أمل واه؟ ". وأجبته: "
والله لا أدري. ثم أننى لا أصدق الأحلام ". وأختفى كل أثر للإبتهاج. ودهشت
لسرعة تبدل مزاجه. ثم انتقل بالحديث الى رواية يخطط لكتابتها، فتحسن حاله
رأساً و أخبرني أنه لم يتوصل بعد إلى خاتمة جيدة. ففي الرواية فتاة، وهو
غير ملم بارتعاشات نفوس الفتيات. ورجانى أن أساعده. عرض علي بالخطوط العامة
حبكة الرواية، فأدركت أنه يقص علي مشاهد من حياته تلقي الأضواء على طفولته
القاسية وعلاقته بالمرحومة زوجته وأقربائه والملابسات الأليمة التى شغلت
الفنان عن عمله المحبب عدة سنين. وكان المفروض أن تنتهى الرواية بعودة
الفنان إلى الحياة من خلال حب يشفيه وينقذه من وحدته وشيخوخته المبكرة. ولم
يخطر ببالي ساعتها أنني كنت المقصودة ببطلة الرواية المزعومة. لكنه باغتني
مرتبكا:
- ما رأيك؟ هل تستطيع فتاة شابة أن تحب فنانا عجوزاً مريضاً مثقلا بالديون؟.. لنفترض أن الفنان هو أنا، البطلة أنتِ، فما رأيك؟
-
لو كان الأمر كذلك فعلا لأجبتك: أحبك وسأظل على حبي مدى العمر. وبعد ساعة
أخذ فيودور دستويفسكي يخطط لمستقبلنا ويسألني رأيي في التفاصيل. وكنت عاجزة
عن الخوض فيها من فرط السعادة. اتفقنا على كتمان سر الخطبة مؤقتا إلى أن
تنجلى الملابسات.
و عندما ودعني هتف مبتهجاً: وجدت الجوهرة أخيراً.
و أجبته: عسى ألا تكون حجراً.
أظن
أن أمي فرحت لنبأ خطبتي. فهي تدرك بالطبع أني سأعاني الكثير فيما لو تزوجت
من رجل مصاب بداء عضال ويفتقر إلى المال. لكنها لم تعمد إلى إقناعي
بالعدول عن الزواج، كما فعل آخرون بعدها. وللحقيقة أقول أن دستويفسكي أبدى
طوال 14 عاماً من حياتنا الزوجية منتهى الطيبة في معاملة والدتي، وبعد
أسبوع افتضح سر الخطبة على غير المتوقع. أفضى به دستويفسكي نفسه إلى حوذيه
في لحظة ابتهاج. فأبلغ هذا الأخير خادمة نقلت الخبر في الحال إلى بافل، ابن
دستويفسكى المتبنئ. غضب هذا على " أبيه العجوز"، فكيف يجوز له أن يبدأ
الحياة من جديد دون أن يستشير " ابنه "؟. وانسحب غضب الفتى علي طبعاً، إلا
أن موقفه مني غدا أكثر ليونة بمرور الزمن. رغبت فى معرفة كل شئ عن
دستويفسكي. وما كانت أسئلتي المتلاحقة لتضايقه. حدثنى عن حبه لأمه و أخيه
المرحوم ميخائيل وأخته الكبرى فاريا، لكنه لم يبد حماساً فى الكلام عن
اخوته وأخواته الأصغر. واستغربت من غياب كل ما يشير الى غرامه بامرأة ما في
شبابه. وأعتقد أن السبب هو تفرغه المبكر للكتابة. فالنشاط الثقافي أزاح
حياته الشخصية إلى المرتبة الثانية، ثم أنه تورط فى عمل سياسي دفع ثمنه
غالياً وصرفه عن الإهتمام بأموره الخاصة، لم يكن يميل إلى تذكر المرحومة
زوجته، لكنه يذكر خطيبته الأولى آنا كورفين بكل خير، ويأسف على فسخ خطبتهما
لإختلاف الطباع والاراء كما يقول. وظل حتى النهاية يحتفظ بعلاقات طيبة
معها. وتعرفت عليها أنا أيضاً بعد ست سنوات من زواجي فربطت بيننا أواصر
صداقة .
سألته مرة: لمِ لم تتقدم إلي بخطبة عادية كما يفعل الجميع، وجئت بمقدمات طويلة عريضة بشكل " رواية " مختلقة؟ وأجاب:
-
الحقيقة كنت يائساً، وكنت أعتبر الزواج منك تهوراً وجنوناً. فالتفاوت
بيننا رهيب. أنا شيخ عجوز تقريباً وأنتِ فى عمر الطفولة وفارق السن بيننا
ربع قرن. أنا مريض كئيب سريع الإنفعال، وأنت مفعمة بالحيوية والمرح. أنا
إنسان مستهلك أكلت عمري وتجرعت المصائب و الأهوال. وأنتِ تعيشين حياة هانئة
والمستقبل كله أمامك. ثم أني فقير ومكبل بالديون. فماذا أنتظر؟
- إنك
تبالغ يا عزيزي. فالتفاوت بيننا ليس فيما تقول. التفاوت الحقيقي أنك اخترت
فتاة متخلفة لن تقترب شبراً من مستواك الثقافي فى يوم من الأيام.
- كنت
متردداً متهيباً فى الخطبة. أخشى ما أخشاه أن أغدو مثاراً للسخرية فيما لو
رفضتِ. فكيف يحق لرجل كهل قبيح مثلي أن يطلب يد فتاة شابة مثلك؟ كنت أتوقع
أن تردي علي بأنك تحبين شخصاً آخر. ولو جاء جوابك على هذا النحو لكان ضربة
قاسية لي، فأنا أعاني من وحدة نفسانية خانقة وكنت أريد أن أحتفظ بصداقتك
على الأقل. ولذا أردت أن أستطلع رأيك في البداية، من خلال مخطط رواية
وهمية. كان أسهل علي عندئذ أن أتحمل رفضك. إذ سيكون موجها ضد بطل الرواية
وليس ضدي شخصياً. وعلى أية حال أرى أن تلك الرواية المختلقة أفضل رواياتي
على الإطلاق. فقد عادت علي بالثمار رأساً.
تلقى دستويفسكي رسالة
من مجلة " البشير الروسي" الصادرة فى موسكو تطالبه بالجزء الثالث من "
الجريمة والعقاب". وكنا نسينا هذه الرواية فيما نحن فيه من أفراح. فعاد
دستويفسكي يملى علي بقية الرواية بهمة ونشاط. تحسن مزاجه، فتحسنت صحته، حتى
أن الشهور الثلاثة التى سبقت زفافنا لم تشهد سوى ثلاث أو أربع نوبات من
الصرع
{3} ، مما جعلنى
آمل بأن هذا الداء اللعين سيخف فيما لو توافرت لزوجي حياة هادئة سعيدة.
وهذا ما حدث بالفعل. فالنوبات التى كانت تنتابه كل أسبوع تقريباً لم تعد
تتكرر فى السنوات التالية إلا لماماً. ولم يكن الشفاء من هذا المرض بالأمر
الممكن، لا سيما وأن دستويفسكي تهاون في العلاج، بل وأهمله لاقتناعه بعدم
جدواه. إلا أن تقلص النوبات كان بالنسبة إلينا هبة عظيمة خلصته من الرواسب
النفسانية الثقيلة بعد كل نوبة، وخلصتني من الدموع والآلام التي تكويني
عندما يقع فريسة للصرع بحضوري. كانت نياط قلبى تتمزق وأنا أسمعه يزعق بصوت
لا يشبه أصوات البشر ثم أراه يتلوى ويخر على الأرض متشنجاً. و عندما ألفيته
لأول مرة يتضور ألماً ويصرخ ويئن ساعات بلسان متلعثم ووجه ملتو وعينين
جامدتين ظننته مجنوناً مختل العقل. لكنه، والحمد لله، كان يغفو طويلا
ويستيقظ بعد ذلك سوياً كالآخرين، لولا الكآبة التي تظل تلازمه أكثر من
أسبوع وكأنه فقد أعز ما لديه فى الدنيا على حد تعبيره.
جاءني
ذات يوم، في عز الشتاء، يرتجف من البرد بمعطف خريفي، فأسرعت إليه بالشاي
الساخن وسألته مستغربة: أين معطف الفرو؟ فأجابني متردداً : قيل لي أن الجو
دافئ. ثم أضاف موضحاً أن أقرب أقربائه، " ابنه " بافل وأخاه الأصغر نيكولاي
وكذلك إميليا زوجة المرحوم ميخائيل، طلبوا منه نقوداً لحاجة ماسة وعاجلة.
فاضطر أن يرهن معطفه الفرائي. ثارت ثائرتي ورحت أبكي وأزعق: كيف يقول
أقرباؤك القساة أن الجو دافئ فهو لا يتناول قهوة الصباح بدون قشدة.، قبيل
الظهر يأكل بافل طيراً مشوباً، فتقدم لنا الخادمة على الغداء الطيرين
المتبقيين فلا يكفياننا نحن الثلاثة.، يختفي الثقاب أحيانا مع أن علباً
كثيرة منه كانت في البيت أمس. و كذا يحدث لأقلام الرصاص المبرية. وتثور
ثائرة دستويفسكي عندما يريد التدخين فيصرخ في وجه فيدوسيا. ويهز بافل
كتفيه: "أنظر يا بابا، لم تحدث أشياء كهذه عندما كنا لوحدنا" ..والخادمة
المسكينة تخشى غضب دستويفسكي حتى الموت، والأصح أنها تخشى أن تصيبه نوبة
مفزعة بسبب ذلك، كما حدث له مراراً بحضورها، كانت متزوجة من موظف سكير توفي
وتركها وأطفالها الثلاثة في فقر مدقع. بلغ خبرها مسامع دستويفسكي فأخذها
خادمة مع صغارها. و حدثتني، و الدموع تترقرق في عينيها، عن طيبته البالغة
وكيف كان يدخل على الأطفال ليلا عندما يسمع سعالا أو بكاء فيغطي الواحد
منهم ويهدهده، وإذا لم يفلح في ذلك يوقظها لتسهر على المريض.
في
الأسبوع الخامس بعد عقد القران بدا شهر العسل فعلا. فالمتاعب والإهانات
التي تعرضت لها خلال هذه الفترة من أقارب دستويفسكي حطمت أعصابي لدرجة
جعلتني أفكر في الطلاق. صارحت زوجي بتلك المتاعب، و ما كان يعرف بالإهانات
من جانب " ابنه " خصوصاً، فلامني على سكوتي وبدد شكوكي ومخاوفي. وشد العزم
على السفر غداً الى موسكو ومن ثم، ربما، إلى الخارج، إذا تمكن من إقناع
السيد كاتكوف، رئيس تحرير " البشير"، أن يمنحه سلفة جديدة، استقبلني فيرا،
شقيقة زوجي، في موسكو خير استقبال. إلا أن أبناءها السبعة عاملوني ببرود.
أدهشني موقفهم وأحزنني، حتى علمت سره فيما بعد. كانوا يحبون عمتهم إيلينا
المتزوجة من رجل شارف الموت ويريدون لها بعد وفاته أن تتزوج من خالهم
فيودور دستويفسكي، ليقيم في موسكو دائماً، فهم يحبونه هو الآخر حباً جماً،
ولكي أخفف من الموقف العدائي الذي قوبلت به في بيت عديلتي أبديت متعمدة بعض
الإهتمام بشاب من زوار البيت لأعيد الإعتبار لنفسي. لكن دستويفسكي لم
يفهمني. وتأكد لي أنه يغار على كثيراً، فرأيت ألا أتمادى في الكلام والمرح
مع أي غريب بحضوره. فالغيرة تؤذيه، إذ خرج عن طوره ساعتها و انهال علي
بتقريع شديد حينما عدنا الى الفندق الذي نزلنا فيه. وفيما بعد تكررت "
نوبات " الغيرة حتى في الخارج. ولم أفلح في اجثثات هذه الصفة الذميمة في
طباع دستويفسكي إلا بالتواضع فى المظهر و الملبس والتحفظ الشديد بحضور
الرجال، حتى أن رفيقاتي أكدن لي عندما عدنا إلى الوطن أنني "شخت" سريعا في
الغربة. ولم يكن ذلك ليسيئني، فزوجي يحبني على ما أنا عليه.
أمضينا
فى موسكو أياما لا تنسى. كنا كل صباح نتفرج على أبرز معالمها ونتفقد كنائس
الكرملين وقصوره. وزرنا قبر المرحومة ماريا والدة زوجي التي كان يقدس
ذكراها - ولد فيودور دوستويفسكى في موسكو في الثلاثين من تشرين الأول 1821
-. وكنا نتناول طعام الغداء كل يوم تقريبا في منزل عديلتي. تحسنت علاقتي مع
أبنائها وصرت ألازم زوجي طول الوقت حتى تبدد الشعور بالغربة و النفور الذي
كاد يستولي علي تجاهه في الأسابيع الأخيرة من حياتنا فى بطرسبورغ. وعاد
إلي مرحي وحبوري. وأكد لي دستويفسكي أنه استعاد هنا في موسكو، " زوجته آنا "
بعد أن كاد يفقدها مؤخراً في بطرسبورغ وأن "شهر العسل" الحقيقي قد بدأ
بالنسبة إليه.
عدنا من موسكو إلى بطرسبورغ بعد أن وافقت مجلة
"البشير" على منح دستويفسكي سلفة جديدة بألف روبل. أعلن زوجي عن نيتنا في
السفر إلى الخارج. فواجه جميع أقربائه هذا النبأ بالإستنكار. وطالبوه أن
يترك لهم، فيما لو سافرنا بالفعل، نقوداً تكفي لعدة شهور. ويعنى ذلك بالطبع
إلغاء الرحلة أصلا، كنا نأمل أن يرتاح دستويفسكي فى الخارج شهراً ليشرع في
كتابة بحثه المطول عن الناقد "بيلينسكي ". لكن إميليا زوجة أخيه أصرت أن
يترك لها ولأولادها خمسمائة روبل. و لا بد من اعتماد مائتي روبل لإعالة "
ابنه" بافل في فترة غيابنا. لم يفلح دستويفسكي فى إقناع إميليا بتأجيل
الدفع، وما كان بوسعه أن يمتنع عن مساعدة عائلة المرحوم أخيه. فاستقر رأيه،
آسفاً، على تأجيل السفر. ورأيت أن أنقذ الموقف بالتضحية بجهاز العرس، رغم
فظاعة هذه الخطوة. لم تعترض أمي على قراري وقالت: "يؤسفني أن تجري الأمور
بهذه الصورة، لكنكما أن لم توثقا أواصر الزواج الآن لن تحافظا عليه أبداً
". وكان علي أن أقنع زوجي بضرورة رهن الأثاث و الحلي. وعندما فاتحته
بالموضوع، بعد أن صلينا معا في كنيسة المعراج، رفض رفضاً باتاً. رجوته أن
ينفذ حبنا ويمنحني شهرين أو ثلاثة من حياة هادئة سعيدة، وإلا سيفسد كل شئ.
وانهمرت دموعي فاسقط فى يده ووافق على السفر مكرهاً، وكانت ثمة إشكالات
بخصوص جواز السفر، إذ أن دستويفسكي محكوم سياسي تحت رقابة الشرطة ولا بد له
من الحصول على ترخيص من الحاكم العسكري إضافة إلى الإجراءات الرسمية
المعتادة. وساعده في ذلك موظف من المعجبين بأدبه. وارتحلنا لنقضي فى الخارج
ثلاثة شهور، لكننا لم نعد إلى روسيا إلا بعد أربع سنين!
أمضينا
في برلين يومين في جو مطار غائم، ثم ارتحلنا إلى درسدن. قررنا أن نبقى
فيها أكثر من شهر حتى يتمكن دستويفسكي من إنجاز بحثه المعقد في النقد
الأدبي. كان يحب درسدن أساساً بسبب معرضها الشهير وحدائقها الزاهرة. وكان
يقف الساعات الطوال متاثرا منفعلاً أمام عذراء السيستين
{4} التي يعتبرها أسمى مظهر لعبقرية الإنسان. " ورد ذكر عذراء رافائيل، على
سبيل المقارنة والتشبيه، في العديد من مؤلفات دوستويفسكي، وبخاصة الجريمة
والعقاب". وفيما بعد، فى فلورنسا، أعجب بلوحة رافائيل "يوحنا المعمدان فى
الصحراء "، وفى بازل كانت له وقفة طويلة مؤثرة أمام لوحة هانز هولبن
{5} "يسوع ميتاً " التي تركت في نفسه شعوراً بالإنسحاق الفظيع انعكس في رواية "
الأبله". وكان يقيم وزناً للوحات تيتسيان وموريليو ورمبرانت وفان دايك
بخاصة.
في درسدن انكب دستويفسكي على قراءة ألكسندر هيرتسن أحد أعمق
المفكرين الروس الذين كان لهم تأثير كبير في أدبه. وفى أوقات الفراغ يطلق
العنان لبعض عاداته المحببة. فكان يتناول يومياً سمكا مقلياً طازجاً فى
مطعم مطل على نهر إلبا، ويتمشى فى حديقة غروسين غاردن والمسافة إليها من
الفندق لا تقل عن سبعة كيلو مرات ذهاباً وإياباً. ولم يكن يتخلى عن هذه
الجولة حتى فى الجو الممطر. فى تلك الحديقة مطعم تعزف جوقته أصنافاً من
الموسيقى. ولم يكن دستويفسكي على إلمام كبير في فنونها، لكنه يتمتع بموسيقى
موزارت وبتهوفن وروسينى ولا يحب ريتشارد فاغنر " ربما لأن دستويفسكي تربى
على تقاليد الموسيقى الروسية الكلاسيكية وعلى رومانسية غلينكا" .
وكنا
فى الأمسيات نتجادل فى مواضيع شتى. وفي الجدال تطفو خلافاتنا الفكرية، حول
"المسألة النسوية " خصوصاً. فقد كنت، من حيث السن و الميول، من جيل
الستينات الذي تميزت نساؤه بالنزعة التحررية و الرفض العدمي. وكان فيودور
دستويفسكي لا يحب الروافض ويشمئز من " رجولتهن" وخشونتهن وعدم اكتراثهن
بمظاهر الأنوثة. وكان يؤلمني في نقاشات زوجي معي أنه ينكر على نساء جيلي
صلابة العود والمثابرة في بلوغ الهدف المنشود، لكن موقفه من المرأة تبدل
تماماً فى السبعينات عندما ظهرت على المسرح نساء مثقفات وذكيات فعلا ينظرن
إلى الحياة بمنظار حاد. وفي تلك الفترة أكد في مجلته "يوميات كاتب " أنه
يعلق آمالا عريضة على المرأة الروسية التي "أخذت تبدي المزيد من المواظبة
والجدية والصدق والعفة والتضحية و البحث عن الحقيقة"، على حد تعبيره.
أشيع
فى درسدن أن امبراطور روسيا تعرض لمحاولة اغتيال أثناء زيارته للمعرض
الدولي في باريس و أن إرهابياً من أصل بولوني أصابه بعيارات نارية. كان
لهذا النبأ وقع الصاعقة فى نفس دستويفسكي. فهو من المعجبين بالقيصر ألكسندر
الثاني الذي ألغى القنانة وحرر الفلاحين منها وأقدم على الإصلاح. ثم أن
دستويفسكي من المتحمسين للنظام الملكي عموما ويدعو إلى اتحاد الشعب مع "
القيصر المحرر" المتنور. زد على ذلك أنه مدين للإمبراطور الحالي باسترجاع
حقوقه المدنية كنبيل أباً عن جد، وقد سمع له القيصر، بمناسبة اعتلائه
العرش، بالعودة إلى بطرسبورغ بعد الإقامة الجبرية فى سيبيريا، أسرعنا حالا
إلى قنصليتنا فى درسدن لتسجيل حضور ولإستنكار هذه الفعلة الشنيعة. اختطف
لون دستويفسكي وكان في اضطراب نفساني شديد، حتى أنه مضى الى القنصلية
راكضاً تقريبا. وكنت أخشى عليه من نوبة صرع جديدة. وقد أصابته فعلا في تلك
الليلة. ومن حسن الحظ أن محاولة الإغتيال كانت فاشلة. إلا أن زوجي ظل حزينا
متألما للغاية. فتلك هى المحاولة الثانية لإغتيال القيصر الذي يحترمه
ويعزه، مما يدل على أن شباك التآمر عليه ضربت جذورها عميقاً.