هذا الموضوع لا يصلح كمقالة فقط.. لأنه يستدعي الكثير من الشرح والاسترسال.. ولكن أتمنى أن يكون لكتابتي فيه توعية لخطورة المشكلة التي وضحت بشكل كبير وخصوصا فى نزاع ابناء الحبيل والبياضيه إلى الحد الذي خرج في بعض الأبناء عن إطار العرف والأخلاق والمسؤولية المجتمعية والوطنية حيث خرج بالأفراد من نطاق تبعية الوطن.. إلى تبعية القبيلة.. وكأننا لا نعيش في القرن الحادي والعشرين، وكأننا لا نتبع لواء أخوة الإنسانية أو الدين أو الوطن بقدر ما نتبع لواء القبائلية التي تعود جذورها إلى العهود الغابرة ما قبل الإسلام. سأقسم موضوعي إلى عدة مقالات لا يكتمل موضوعها إلا باكتمال آخرها.. وهذا المقال هو أولها..
(ملاحظة: أرجو من الإخوة والأخوات الزوار مناقشة المقالات بحسب النقاط المطروحة فيها…مع جزيل الشكر والتقدير)
قبل أي شيء.. لا يجب أن ننسى قول المصطفى عليه وعلى آله أشرف الصلاة والتسليم { دعوها فإنها منتنه } في إشارة منه إلى العصبية القبلية
ليس من حق أي إنسان أن يحرم أي شخص من اعتزازه بأصله وقبيلته ونسبه..
نحن العرب مفطورون على ذلك
لكن أن يتحول الاعتزاز القبلي إلى تعصب مقيت.. فهنا الخلل..
لقد أفضى الاعتزاز إلى تحوله إلى تعصب
للأسف..
وأنا هنا لا أدعو لنبذ الاعتزاز القبلي لكونه هو المسبب الأولي للنتائج التي أفضت إلى التعصب الخطأ..
ولكن في نفس الوقت فإنني فقط أدعو نفسي وأدعوكم للنظر إلى المسألة بعين الاعتبار ومن مختلف الجوانب… الدينية والأخلاقية والمجتمعية..
(1)
نعود بقضية النسب العربي إلى الوراء قليلاً..
على الرغم من أن الإسلام جاء فأمم مسألة الأفضلية بين الناس بحصرها في “أفضلية التقوى والمساواة في غيرها” إلا أن التقوى ولأنها مسألة يعلمها وحده الله عز وجل ولا يوجد لقياسها أي آلية دقيقة وموضوعية ممكنة، فقد ظلت في إطار عدم التطبيق لأنها لا تمت بحسب رأيي بالقياس الدنيوي ولكن بما يلي الحياة الدنيا فكانت في إطار التوعية والتهذيب والترغيب وبقي تطبيقها يقتصر في الإطار التشريعي على القضاء والفصل في النزاعات والحقوق المدنية. وأجزم قطعاً أن أفضلية التقوى لا يمكن قياسها أبداً وبأي شكل من الأشكال وحتى لو طبقت فما هي آلية القياس الممكنة وكيف يمكن تطبيقها؟! (فهل يمكن مثلاً وضع نسبة التقوى لكل شخص في بطاقته المدنية؟ قطعاً لا!).
وقد استثنيت المساواة على أساس النسب عند أمور أخرى تتراوح في أهميتها ومرجعيتها ومن بينها بند “الكفاءة” الذي يعد شرطاً أساساً في الزواج عند الإمام الشافعي والعديد من الفقهاء الذين تلوه، فيما أهمله فقهاء آخرون ولم يشترطوه.
إن الله عز وجل ولحكمة منه لم يضع لا في نصوصه القرآنية ولا من استنباطات السنة حداً حاسماً (أي حكماً شرعياً محدداً وواضحاً) لمنطق النسب والقبيلة لأن من غير المنطقي أن يحسم الأمر في مثل تلك المسألة الحساسة جداً بالعقوبة أو التعزير أو الحد لأنها تدخل في الجوانب النفسية وفي (لا وعي) الأفراد أكثر من ظهورها على سطح الحياة والتعامل اليومي..وهذا الأمر لا يقلل من شأن المشكلة ولكنه يشير إلى خطورة أي تعامل مباشر معها في رأيي.
لقد جاء برسالة الإسلام العظيمة الرسول الأمين محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو ابن قبيلة كان لها مكانة كبيرة في مكة أرض الحجيج والتجارة، ومن المهم أن أنبه القارئ -قبل استرسال الحديث- إلى الأهمية الاستراتيجية لمكة التي جعلت لتركيبها السياسي والقبلي حساسية كبيرة تفرضها المصالح الاقتصادية والاستفادة من الموارد التي يوفرها التوافد العظيم لحجاج البيت كل عام في عصر ما قبل الإسلام، ومن ثم في أن أهل مكه المهاجرون، هم من تقلد مقاليد الخلافة والحكم في عهد ما بعد وفاة الرسول الكريم صلوات الله عليه وعلى آله وحتى بدء العهد العثماني (العثمانيون ينتسبون إلى قبائل الغزو التركية في تركستان وتحديداً إلى عثمان بن أرطغول).
ولعل أبلغ مثال على أن للنسب أهمية كبيرة عند العرب لا يلغيها الحث الإسلامي على المساواة قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المرفوع: {إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، ثم اصطفى من بني إسماعيل كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشاً، ثم اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفاني من بني هاشم } ووصيته لأمته بتعلم الأنساب وتدوينها وحفظها لوصل الأرحام المنقطعة أو المندثرة بقوله: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأةٌ في الأثر) لكنه أيضاً حذر أشد التحذير من عواقب التحمس لقضية الأنساب وأفضليتها بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية -العبية هي: الكبر، أي: إن الله قد أذهب عنكم بهذا الدين وبهذا القرآن الكبر الذي هو سمة من سمات أهل الجاهلية -وفخرها بالآباء، مؤمنٌ تقي وفاجرٌ شقي-أي: هناك قسمان: مؤمنٌ تقي وفاجرٌ شقي- أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).
لقد أشارت المراجع الدينية والتاريخية في عدة مناسبات إلى أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وذريته أشرف العرب نسباً وأفضلهم خلقاً وخُلُقاً. وفي تفضيل نسب بني هاشم على سائر قبائل قريش والعرب تداعيات بقي أثرها إلى يومنا هذا. وكثيرة هي القصص التي تدلل ذلك من تاريخ الدول والحضارات الإسلامية المتتابعة، فحتى عندما كان النبي منتمياً إلى أكثر قبائل العرب ومكة وجاهة وعظمة في النسب إلا أن تلك الأفضلية كانت أيضاً محل جدل كبير وخاصة في عهد جد النبي صلى الله علي وسلم عبدالمطلب، ومن ثم كان الجدل حاضراً في مسألة الخلافة وتحديداً عند نقطة التحول الكبيرة المتمثلة في ظهور الدولة الأموية وتأسيسها لحكم مورث أساسه النسب إلى تلك القبيلة القرشية (كثيرون يعزون الطائفية وانقسام المسلمين إلى سنة وشيعة إلى حادثتي السقيفة وتولية معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد كأول توريث في الخلافة -ومسألة النسب والأفضلية كانت حاضرة بقوة في المناسبتين-). قبيلة بني أمية كانت ومنذ عصر الجاهلية نداً قوياً وعنيداً لبني هاشم في قريش ورغم أن الإسلام جاء فألغى الكثير من موروثات الجاهلية إلا أن بعض الأمور ومسألة الندية الأموية- الهاشمية هذه بقيت كما تشير العديد من الأحداث التاريخية.
لم يهمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه للصحابه اهتمامهم بمعرفة رأيه حول شرف النسب العربي فكان فطناً متيقظاً فهو الذي (لا ينطق عن الهوى) ، فعندما سألوه عن أكرم العرب.. قال صلى الله عليه وسلم (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) ولاحظ هنا اشتراطه ذلك بقوله (إذا فقهوا). لكن وفي الحديث نفسه فقد أشار إلى أن أكرم الناس جميعاً في النسب وأشرفهم هو النبي يوسف عليه السلام بقوله قبلها: (فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله