مر عامان وهو يتجرع مر الغربة عن الوطن ، عقله وفكره مع زوجه وأبنائه الثلاثة في وطنه .
الموعد السفر ، لم يصدق أنه عن قريب يتجاوز " الحدود " فسرعة " الأتوبيس" تشد قلبه وتفكيره
للقرب أكثر إلى قريته وبيته . وكأنه سيعود إلى طفولته وشبابه عند وصوله إلى أهله.
كانت فرحته في ازدياد كلما نظر للجانب الأمامي من " الأتوبيس " فيزداد شعوره الوثاب بالشوق لجلسات كان يقضيها بين المزارع والبحر الذي يربط بينهم وبين النماء ، والخير الذي طالما افتخروا لوطنهم بوجوده .
تنهد طويلا مع خروج الزفير من صدره وكأنه ينفض ألم الغربة عن جنبيه . حدث نفسه: تُـرى أذلك الماضي ؟ قطع تفكيره الصوت العالي الصادر من "الأتوبيس " ليعود إلى مقعده والذي بدأ يُشعره بالتململ من طول الجلوس ، وما يضفيه على مكانه من حرارة صادرة من أسفل الكرسي ، ومع امتداد يديه نحو جبهته ليمسح بعض قطرات العرق والتي بدأت تنسحب على خديه ، بدأ يخفف عن نفسه هذه الحالة مع الانتقال بذاكرته إلى الساعات الأخيرة قبل ركوبه ، وهو يحادث "زوجته " وأبناءه بالهاتف .
حدث نفسه بفرحهم عند وصوله ، هذا الغوص في هذه الخواطر كاد أن يغسل وعثاء السفر ، ولأواء الطريق . شعوره وهم يفتحون حقيبة سفره ليفرحوا بهداياه، كما فرحوا بقدومه عليهم . وقد أغرق في الأمنيات أن يعجبهم كل ما قضى فيه الكثير من الوقت ليرضيهم به ، والسلسلة الذهبية غالية الثمن التي أحضرها لزوجته .
لم ينقله من بينهم سوى صوت الميكروفون الداخلي من " الأتوبيس : والذي يوجههم فيه السائق لتجهيز جوازات السفر . ومع الاستعداد للنزول .
المكان . الحدود . التفتيش . ذلك السور الحديدي . الزحام . الحقائب . التأخير . الصف الطويل . مر ذلك كله سريعاً عبر زحام تفكيره . تذكر الوطن . كم اشتاق لوضع أقدامه بأرضه .
دخل ساحة كبيرة ليبحث عن حقائبه ، تخطت قدماه ـ بصعوبة ـ زحام الأرض بالحقائب والأجهزة وأكوام أحضرها المسافرون ، والجميع يبحث ، والبعض قد استغرق وقتا طويلا في البحث عن بعض حاجياته دون جدوى .
وقف . حار . سأل . وبعد فترة علم من أكوام النائمين والمتعبين بأركان الساحة تأخر الشاحنة المحملة
بالحقائب والأمتعة . بدأ رحلة انتظار ، حتى أحس بالجوع والعطش ، بحث عن مكان يجد فيه بغيته من الطعام والشراب . أراد أن يغسل وجهه ببعض الماء لا ستعادة بعض النشاط . تعجل ، وصل الماء ، ملأ كفيه ، ازداد ألماً عندما آذت ملوحة الماء وجهه . لملم أطراف ثيابه ليمسح ما علق بوجهه من حبات الماء .
أحس أنه في صحراء تبعده عن الوصول لوطنه . وضع يده تحت خده ونام وتحته ورق كرتون قديم ، وبعض ورقات جريدة ملقاة بالأرض . لم يشعر بما حوله من التعب إلا في الساعات الأخيرة قبل انقضاء الليل .
صحا من نومته على صوت وصول الشاحنة بالحقائب والأغراض .
ومن بين الأكوام التي نثرها العمال من فوق العربة الكبيرة ، مع الأصوات ، والضجيج من كل جانب . أخذ يجمع حاجياته من جوانب المكان . ..... وضعها فوق عربة صغيرة ، ساعده أحد العمال بعد الاتفاق على بعض العشرات من النقود .
مشى وراء عربته منهكا ، اتجه نحو صالة التفتيش ، وعند اقترابه نظر إلى الزحام والضجيج الصادر من " عسكري " يعمل على تنظيم الصف عبر الألفاظ ، وحزامه ذي اللون الأسود .
إنها ضريبة دخول الوطن . تحامل على نفسه . إنها بعض الساعات الصعبة كي تحصل على الراحة . لكنه كان ـ لبعض اللحظات ـ ينسى نفسه ، ليعزي من كان معه أطفاله في هذه الظروف وصعوبتها، اقترب دوره للتفتيش ، نظر لحاجياته والسكين تغوص في كرتونة ورقية معه فأحس بهوانها على العامل والموظف عدم استطاعته الاعتراض على التعامل مع حقائبه وأمتعته .
ومع صمته ، ونظرات عينيه ، بادره الموظف بتوجيه بعض الضربات الكلامية والتي لم يسمع مثلها منذ عامين يوم أن مر من هذا المكان مسافراً . أخذ يلملم حاجياته ، استجمع قواه ، وحاول دفع العربة بيديه وأجزاء صدره . التفت على صوت الموظف منادياً : لقد نسيت حقيبة صغيرة . نظر نظرة كليلة إليه قائلاً : ما تركتها نسياناً . قال له : ولم لم تأخذها ؟
قال : سآخذها عند رجوعي للخروج من الوطن مسافراً . قال وما فيها ؟
قال : كرامتي .